البصرة .. صراع من أجل البقاء
قد لا يُخيّل للمرء إنه في القرن الحادي والعشرين، وفي مدينة تسبح على بحر من نفط يجعلها من المدن الغنية، إن أهلها يتظاهرون ويحتجون للمطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء، أدنى واجبات أية حكومة تجاه مواطنيها، إلا أن ذلك يحدث بالفعل في مدينةالبصرة العراقية، بعد أن ضاق ذرعاً بأهلها وملّوا كل الوعود التي يطلقها المسؤولون العراقيون منذ ما يقارب 14 سنة، من دون أن تسمن أو تغني من جوع.
لايمكن لأي شخص عاقل أن ينكر أحقية المطالب التي خرج بها البصريون، إلا أن ما شهدته البصرة من أعمال عنف وتخريب واعتداء على القنصليات والبعثات الدبلوماسية وصدامات مع قوات الأمن أدت لسقوط ضحايا من الجانبين، تقودنا لتساؤلات عدّة، ما الفائدة التي يرتجيها مواطن محروم من أبسط حقوقه من هذه الممارسات؟ وما العلاقة بين تظاهرات مطلبية وممارسات أهدافها سياسية؟ أم أن هناك طرفاً آخر دخل على خط التظاهرات لتحقيق مآرب معينة؟.
لم يعد خافياً على أحد، أن المنطقة تعيش منذ سنوات عدّة حال صراع حادّة بين محورين، بل أن كل ماجرى ويجري من حروب وإرهاب وخراب ودمار هو نتيجة إفرازات هذا الصراع، صراع بين طرفين أحدهما يحاول كسب المنطقة ببلدانها لصالح المشروع الأميركي الذي تعد دول "عربية" في المنطقة عرّابة له، يسعى لاستسلام كامل مع "إسرائيل" وتطبيع للعلاقات معها وبيع القضية الفلسطينية وطيّها نهائياً، بمواجهة محور آخر يرفع شعار العداوة الدائمة "لإسرائيل" والمقاومة المسلحة لها لتحرير فلسطين بكاملها وإرجاعها لشعبها الأصيل.
لذا ومن هذه المعطيات فإن العراق لم يكن ولن يكون بعيداً عن هذا الصراع القائم، خصوصاً لما يميّزه من أهمية جغرافية وسياسية،وهذا ما انعكس على حراك البصرة الأخير، من استغلال جهات له لحرفه عن مساره ومحاولة تظهير الشعب العراقي بصورة أخرى وكأنموذج بسيط أشير هنا إلى صوَر نشرت لقائد عمليات البصرة
وبعض "النشطاء" جمعتهم مع القنصل الأميركي في البصرة !!!! مع آلاف علامات التعجب، وكأنه ذاك الشعب الغاضب الممتعض من قواه الأمنية وحشده الشعبي وبعض الجيران، فجاء ليصب نار غضبه عليهم وكأنهم هم السبب في نقص الخدمات والتقصير الحكومي، كل ذلك أيضاً يتأتى مع حال سياسية غير مستقرة وتحالفات لكتل سياسية تتغير بين لحظة وأخرى، ربما بل من المؤكد أن هناك من راهن على إعادة الفوضى للوضع العراقي أو على أقل تقديرتحول في الخارطة السياسية العراقية او استخدام العراق كخنجر في خاصرة محور المقاومة، وكي لا نبالغ كثيراً بالقول إن المشروع الأميركي قد فشل في العراق، إلا أنه حتى هذه اللحظة شهد تراجعاً خصوصاً بعد الحراك السياسي الأخير الذي أعقب الهدوء الذي تعيشه البصرة، تفاهمات وربما تقاربات بين تحالف "سائرون" الذي يتزعمه السيّد مقتدى الصدر و ائتلاف "الفتح" بزعامة هادي العامري وهو الأمر الذي لم تكن تحبّذه الولايات المتحدة بل عملت على زيادة الشرخ بين الطرفين لإبعادهما عن اي توافق قد ينتج منه تشكل الكتلة الأكبر داخل البرلمان وبالتالي تكليف رئيس للوزراء وتشكيل الحكومة، إلا أن كل ذلك وبالرغم من أن كل الإشارات حتى هذه اللحظة تدل على أن الكتلة الأكبر سيكون عاموداها الأساسيان سائرون والفتح، لكنه يبقى مرهوناً بمفاجآت السياسة العراقية.
وبين مشروع مقاوم وآخر مهادن، يدرك المواطن العراقي تمام الإدراك أن العملية السياسية بشكلها الحالي ( الطائفي المحاصصاتي) لن تعود عليه بالنفع بأي شكل من الأشكال، بل إن معاناته من الفساد والبطالة ونقص الخدمات وهدر الثروات، ستتفاقم يوماً بعد آخر مالم يتأسّس نظام عراقي وطني خالص لا تتوزّع فيه المناصب على أساس المذهب والطائفة، إلا أن الميل لهذه الجهة من دون تلك أو تفضيل هذه القوى بمواجهة الأخرى ليس سوى اختيار بين مَن يتماهى مع المشروع الأميركي وبين مَن يقف بالضد منه.