إدلب .. حسابات الساعات الأخيرة
تُدرك الولايات المتحدة جيداً ومَن يتحالف معها في الحرب التي فُرِضت على سوريا، أن إعلان خاتمة هذه الحرب سيكون بتوقيت إدلب، فهي المعركة الأشدّ تعقيداً وصعوبة وأهمية أيضاً وأن ما بعدها لن يكون سوى تفاصيل إذا ما قورن بها، لذا تتصاعد حدّة التصريحات وتتعالى التهديدات علّها تساهم في تثبيط عزيمة الدولة السورية وحلفائها عن بدء معركة التحرير، ولهذا فإن محاولات الضغط على الدولة السورية عبر التهديد بتنفيذ ضربة عسكرية تجري على قدمٍ وساق.
في حين لايتوقّع أيّ مُطّلع بسيط على مسار الأزمة الدائرة في البلاد، أن يُحدِث التدخّل العسكري الأميركي "إن حصل" أيّ تغيير في موازين القوى على الأرض، لذا تخشى الولايات المتحدة بدء هذه المعركة لأنها على يقينٍ تامٍ من حتمية انتصار الجيش السوري فيها، وتعلم تماماً أنه كلما زادت مساحة الأراضي التي تسيطر عليها الدولة السورية فإن أوراقها التفاوضية تنحسر أكثر فأكثر، وهي التي خطّطت ودعمت منذ العام 2011 كافة الجماعات المسلحة لقلب الوضع السوري لصالحها ومُنيت بكل هذا الفشل.
ولأن الولايات المتحدة لاتريد الخروج خالية الوِفاض من الحرب السورية فإنها تحاول الضغط في جبهات أخرى تسيطر عليها جماعات كردية موالية لها من خلال تعزيز تواجدها العسكري في الشرق السوري، في حال سقطت ورقة إدلب من يدها فإن لديها ما يمكن التفاوض به أو حوله : الانسحاب من سوريا مقابل مكاسب أقلها قد يكون مالياً وأهمها الانسحاب الإيراني، فيما يبدو الأخير أشبه بضربٍ من الخيال، خصوصاً بعد الاتفاقيات التي وقّعت خلال زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى دمشق وتأكيد الطرفين على أهمية وعمق العلاقة بين البلدين والتي لا يمكن اعتبارها مرحلية بأي شكلٍ من الأشكال بل هي علاقة استراتيجية ولأمدٍ طويل، والعسكرية منها على وجه الخصوص.
وفي ظل كل ما يجري، يظهر التركي كأكثر لاعبي الأزمة السورية "سذاجة" فهو الذي لم يدّخر جهداً لتمويل وتدريب وإرسال المسلحين إلى سوريا، منسجماً بالكامل مع هدف الحلف الأميركي الغربي الرجعي العربي في إسقاط "النظام" السوري، يجد نفسه اليوم مأزوماً اقتصادياً في الداخل .. مأزوماً دبلوماسياً مع "الحليف" الأميركي الأبرز والأهم، ومحاطاً بمشاكل جمّة، علاقة "عداء" مُعقّدة جداً مع النظام الجار (السوري) الذي يُشرف على إعلان نصره الكامل واستعادة سيطرته على كامل أراضيه، و"تهديد انفصالي" على حدوده الجنوبية، قد لا نبالغ إنْ قلنا إن الموقف التركي في أقصى درجات الحَرَج، يتأرجح بين محورين، فهل ستستطيع حكومة أردوغان التحرّر من خانة اليك التي وضعت نفسها فيها؟
يقيناً إن تركيا تعلم إن الدخول السوري إلى إدلب واستعادة السيطرة عليها متحقّق لا محالة، لذا فهي ليست بموقع المُراهنة على الفصائل التابعة لها، فيما تذكر مصادر وتسريبات أن الروس أمهلوا الأتراك حتى الثامن من أيلول سبتمبر، لممارسة نفوذهم على بعض الفصائل في إدلب لتسوية أوضاعهم من خلال حل نفسهم والقبول بالمُصالحات وإلا فإن الإبادة ستكون مصيرهم المحتوم، ما يعني أن أنقرة اليوم تحاول جاهدة "مرغمة" التوصّل لتفاهمات مع روسيا وإيران للخروج من المستنقع السوري بأقل الخسائر، وتجنّب تبعات التورّط حتى القاع فيه، كما يُعتقد أن يشكّل الوضع الاقتصادي عامل ضغط على أنقرة ومدخلاً لعقد صفقات "مُقايضة" كأن تعرض موسكو تعويض أو تقليل خسائر أنقرة جرّاء العقوبات الأميركية عليها مقابل انسحاب تركي من أراضٍ سورية تحتلها.
مع كل السيناريوهات المُفترضة فإن الثابت في الأمر، إن المنطقة برمّتها تُقبِلُ على مرحلة جديدة ربما ليست قريبة جداً لكنها ليست بعيدة أيضاً، مرحلة تنهي بشكلٍ قاطعٍ الاعتقاد السائد بأن كل ما تريد تحقيقه أميركا سيتحقّق، وتُعيد الدولة السورية فيها تثبيت نفسها لتكون أقوى وأكثر قدرة، مرحلة سيكون فيها صوت المحور المُناهض للسياسات الأميركية أعلى مما سبق، مرحلة لا تشابه ملامحها أية مرحلة خلت.