هل حقاً أنقذ أمير قطر صديقه إردوغان؟
أخيراً وقبل حدوث الإنهيار الكبير وصل الأمير، حاملاً بيديه طوق النجاة وشريان الحياة وقليل المليارات، يا له من أمير تكبّد عناء المغامرة وغضب الشرير لينقذ صديقه وشريكه سلطان الوهم الكبير. نعم كان على قطر أن تأتي لإنقاذ تركيا وليس لإعطائها جرعة مُسكّن تكسبها بعض الوقت فقط، ما أغضب السلطان فأقلع عن النيافة وابتعد عن كرم الضيافة ولم يخرج إلى المطار لاستقبال الأمير. وعينه على مساعدة أصدقائه الروس وربما الصينيين، في وقتٍ يأمل فيه خيراً بعد حديثه مع المستشارة الألمانية يوم الأربعاء ومع الرئيس الفرنسي يوم الخميس. على وقع كلام الإقتصادي الكبير هولغر شميدنغ: "لا يمكن لألمانيا فعل الكثير"، فيما أكدت ميركل أن "قوة الإقتصاد التركي هي قوة لألمانيا وللإتحاد الأوروبي".
أزمة فاجأت العالم، فالخلافات والتوافقات بين تركيا والإدارة الأميركية الحالية تبدو حالات طبيعية تعبّر عن مدى ارتباط أجنداتهما وتعقيداتهما في مشاريع المنطقة، وتُظهر ترامب وأردوغان كصديقين أكثر منهما كحليفين، ولم يتوقع أحدٌ أن تسوء الأمور بينهما وتصل حد الخلافات والتهديد والعقوبات وسياسة الرد بالمثل... ومما ساعد على تفاقم الأزمة عناد وصلابة رأس الصديقين، وليس مستغرباً أن تندلع الشرارة بينهما خصوصاً مع التوتّر الحاصل نتيجة هزائمهما في المشروع الإرهابي الديني المتطرّف لتقسيم سوريا ومحاصرة إيران وروسيا، وما نتج منها من خلافاتٍ ذات طابع سياسي وبعضها عسكري، ونتيجة تقارب تركيا مع دول محيطها القومي والحيوي كروسيا وإيران.
فالقصة بدأت - إعلامياً – عندما طالب الرئيس ترامب نظيره التركي بالإفراج عن القس الإنجيلي الأميركي "أندرو برونسون" المُحتَجز في تركيا، فطالب أردوغان بالمقابل تسليمه المعارض فتح الله غولن الموجود في أميركا .. وتطوّرت إلى المطالبة بغير مُعتقلين، وبعقوباتٍ أميركية على وزيرين تركيين قوبلت بعقوباتٍ تركية مماثلة، وأنتهى الجزء الأول بتغريدة ترامب على تويتر أكّد فيها توقيعه على قرار رفع التعريفات والرسوم الجمركية على الفولاذ والألمنيوم التركي المستورد، وعلى الفور بدأت العملة التركية بالهبوط السريع ووصلت خلال أيام قليلة إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، ويبقى السؤال، هل بدأت الأزمة بسبب احتجاز القس الأميركي في تركيا، وهل ستنتهي بالإفراج عنه؟
حقيقة أزمة الليرة التركية، هل الأزمة وليدة اللحظة أم كانت تركيا ناضجة للوقوع فيها؟
إن قرار ترامب بمُضاعفة التعريفات والرسوم الجمركية على الفولاذ والألمنيوم التركي المستورد، لم يكن ليشكّل إعصاراً مزلزلاً لاقتصاد دولة تدّعي القوّة مثل تركيا، وأن الخسائر التركية المُحتملة من جرّاء تطبيقه لم تكن لتتجاوز 0.04%.. ولا يمكن لها وبأحسن الأحوال أن تتسبّب بانخفاض الليرة التركية إلى مستوياتٍ قياسية تجاوزت الـ 7 ليرات تركية مقابل الدولار الواحد.. ولا يرتقي وصف أردوغان لما يحصل ب "الحرب الاقتصادية"؟ من المؤكّد أن مجمل الأوضاع الإقتصادية - المالية والسياسية التركية كانت ناضجة باتجاه حصول الأزمة.. إذ يقول خبراء الاقتصاد في "Bloomberg Economic" إن تركيا كانت تقف على شفا الحفرة قبل أن تبدأ ليرتها بالانخفاض، نتيجة توافر واجتماع عوامل الضعف والتدهور الأساسية وذلك وفق أربعة معايير رئيسية هي: 1- رصيد الحساب الجاري 2- الدَين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 3- فعالية الحكومة 4- التضخّم.
إردوغان المُستبدّ وسياسته المالية – الاقتصادية الخاطئة
لقد شكّلت أزمة هبوط العملة ضربةً قوية لأردوغان، بعد فوزه وإعادة انتخابه في حزيران المنصرم، وتعيين صهره وزيراً للمال، وممارسة الضغوط على البنك المركزي ليرفع سعر الفائدة، لقد أظهر أردوغان فشلاً كبيراً في إدارة اقتصاد بلاده، خصوصاً بعدما اعتمد سياسة رفع سعر الفائدة الأمر الذي عقّد مهمة سداد ديونه إلى البنك الدولي والتي تتجاوز الـ 200 مليار دولار، وسرّع من زيادة معدلات التضخّم في وقتٍ لم يتوقّف فيه عن الصُراخ الفارِغ لإظهار استقلالية ونجاح نظامه المالي... لكنه بعناده واستبداده أوصل بلاده حد إجبارها على طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي أو من الصين أو من أية جهة أخرى.. ولحُسن حظه وصل أمير قطر وحمل له بارقة أمل إذ وعد باستثمارٍ مباشر بـ 15 مليار دولار في تركيا.. يا له من مشهد قلَب الموازين وأظهر الأمير كجنتلمان ومنقذٍ كبير أمام اّخر و أضعف "السلاطين" .
أنقرة والبيت الأبيض يعزفان على وتر الأمن القومي
على الرغم من سوء قيادة أردوغان للدفّة الاقتصادية فإن ما أظهرته الأزمة التركية بوضوح شديد أن سلوك الولايات المتحدة تجاهها اتّخذ منحىً سيئاً للغاية يمكن وصفه بالكارثي لمجرّد أنه أتى عبر تغريدة أدّت إلى انخفاض الليرة بنسبة 18%، لكن أردوغان اعتبرها بمثابة هدية ووجد فيها مادة ً لحَرْفِ الأنظار الداخلية عن أخطاء سياسته المالية – الإقتصادية واستعملها لحشد قوى الداخل وراء إدّعائه بأن تركيا تتعرّض لحربٍ خارجية معادية، وعزف على اّلة الأمن القومي مُجدداً كما يفعل في كل محنة أو مأزق.. في الوقت الذي أكدت فيه "سارة ساندرز" الناطقة باسم البيت الأبيض إن "الولايات المتحدة لن تُلغي التعريفات الجمركية حتى لو أطلق سراح القس، لأنها أتت بداعي الأمن القومي الأميركي".
ما لذي يدفع ترامب للضغط على تركيا– أردوغان؟
لقد أثارت قرارات ترامب وتصعيد مواقفه وإدارته تجاه تركيا حفيظة دول وأسواق العالم، خصوصاً أنه لم يقدّم تبريراً لرفع رسومه وتعريفاته الجمركية معها، واعتبر تصرّفه غامضاً على الرغم من تكرار التصريحات الأميركية التي تتعلق بالإفراج عن القس "أندرو" بدليل فرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية في الحكومة التركية، وتكهّن آخرون بأن رفع التعريفات كان بهدف تعويض أموال ميزة التسعير التي تحصل عليها تركيا لكون عملتها أرخص من الدولار، في حين أوضح البيت الأبيض بأن السبب الحقيقي للتعريفات هو: "تعزيز الأمن القومي من خلال حماية منتجي الصلب والألمنيوم في الولايات المتحدة"... ويرى البعض أن السبب الحقيقي هو تنفيذ ترامب لرغبة وحسابات رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لمنع ارتفاع درجة حرارة التضخم في الولايات المتحدة، الأمر الذي سيدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع في جميع أنحاء العالم، حيث ستتنافس الشركات والحكومات على أموال محدودة.. وقد يؤدّي ذلك إلى الحد من معدّلات النمو في الولايات المتحدة.
هل حقاً أنقذ الأمير "السلطان"؟
من الواضح أن تأخّر التحرّك القطري ومن ثم زيارة الأمير تميم وتقديم ملياراته الـ 15 والتي لم تكن لتحصل من دون الضوء الأخضر الأميركي، ومن المرجّح أن تبقى تركيا عالقة ولبعض الوقت في مخلب الاقتصاد العالمي فلن تستطيع بضعة مليارات قطرية أن تحمل الاقتصاد التركي نحو برّ الأمان ومنع الليرة من متابعة انخفاضها، لكنها منحت أردوغان وقتاً يحتاجه لاعتماد إدارة اقتصادية صحيحة تُجنّب العالم عدوى أزمة اقتصادية جديدة.. ووقتاً يحتاجه ترامب كي يستفيد من تجاربه الخاصة ليتّجه أكثر فأكثر نحو الحكمة في قيادة الولايات المتحدة الأميركية... فلوقتٍ قريب كان الرجلان أصدقاء وحلفاء ومن المثير للسخرية أن يتحوّل ترامب ليقول "لقد أثبت أردوغان أنه صديق غير جيّد"، فلن يجد ترامب كرجل غريب الأطوار غضاضة أكثر لاصطناع ابتسامة في وجه مستبدٍ يُعجبه ويثير غضبه في آنٍ واحد.
هل ستنتهي الأزمة في تركيا أم ستنتقل العدوى إلى خارجها؟
تُعتبر تركيا من الدول الناشئة أو الصاعدة وتثير محنتها مخاوف نظرائها من الدول، ويبقى خطر عدوى انتقال المشاكل المالية من دولة إلى أخرى قائماً، وعليه تأتي تحرّكات ومساعي ألمانيا وفرنسا وقد يلتحق بهما آخرون لمنع العدوى .. كذلك تبقى خشية الدول وبعض البنوك من عدم قدرة تركيا على سداد ألتزاماتها النقدية للبنك الدولي فمن شأن ذلك التسبّب بأضرار جسيمة لدولٍ وبنوكٍ عديدة، بالإضافة إلى خشية البعض من تطوّر تدهور علاقات أنقرة بواشنطن الأمر الذي سيدخل تركيا في أزمة كبرى تُجبرها على محاصرة رؤوس الأموال داخل حدودها... الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور صيادين جُدد ينافسون ترامب في تركيا، إذ يعرف الإقتصاديون أن أفضل أوقات الاستثمار هي أيام التوتّرات والحروب والدماء .. خصوصاً أن أردوغان راهن على ليرات ومدخّرات جمهوره من الفقراء وربما على دمائهم. أخيراً ...على أردوغان أن يعي أن الاقتصاد التركي لازال ناشئاً، وأن اعتماده على اقتصادٍ مفتوح للتجارة والاستثمار الخارجي، لا بد من أن يترافق بحذر شديد حيال الاقتراض والإنجرار وراء لمعان العملات الأجنبية بين يديه واندفاعه نحو رفع سعر الفائدة.. فالرجل العاقل في عالم الاقتصاد لا ينتظر لطف الغرباء ورجولة مشيخة قطر وأميرها، فلولا الضوء الأخضر الأميركي لما شهدت قصة اليوم أيّة بطولة ولكان على السلطان مغادرة المكان.. وتبقى العبرة بأن تركيا اقترضت وزادت إنفاقها بما يتجاوز حدود إمكانياتها فوقعت فريسة مَن يتربّص بها.