بين غيفارا ومادورو .. ملفات سوداء من الاغتيالات الأميركية

لم يكن أشدّ على زعيمة الاستكبار العالمي في أواسط القرن الماضي، من بداية وعي الشعوب، وجهودها المبذولة من أجل استقلالها وحريتها، وانتشار الفكر الثوري الماركسي بين نُخَب وشعوب العالم، وخصوصاً في جنوب القارة الأميركية.

مادورو كان يلقي كلمة خلال ذكرى الحرس الوطني البوليفاري حين تعرض لمحاولة اغتيال في آب/أغسطس 2018

أيّاً كانت الجهة التي نفّذت الاعتداء الأخير، الذي تعرّض له الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، في محاولة لاغتياله، فإن الذي خطّط له وأوعز بتنفيذه، سواء أكانت حكومة لبوليفيا أم غيرها، جهة واحدة معلومة، من السذاجة أن يتجاهلها أحد في هذا العالم، لا من جهة تاريخها، الحافل بالجرائم والاعتداءات والاغتيالات، ولا من جهة أهدافها الواضحة، في استغلال واستعباد الشعوب، ولا من جهة ملفاتها التآمريّة شديدة السّواد، التي رسمت الصورة الحقيقية للبيت الأبيض الأميركي، ليظهر بمظهره الجدير به، موشّحاً بسلسة جرائم سوداء دبّرت بليل، بحق شخصيات ودول، لم تستطع سياساتها الاستكبارية لها حولاً ولا طولاّ، بغير هذه الأساليب المُنحطّة في الغدر والإجرام.

لم يكن أشدّ على زعيمة الاستكبار العالمي في أواسط القرن الماضي، من بداية وعي الشعوب، وجهودها المبذولة من أجل استقلالها وحريتها، وانتشار الفكر الثوري الماركسي بين نُخَب وشعوب العالم، وخصوصاً في جنوب القارة الأميركية، حيث اعتبرته تهديداً لمنظومتها الإمبريالية، وباشرت مكافحته بكل الطُرق، خصوصاً بعد سقوط عميلها في كوبا (باتيستا)، وانتصار الحزب الشيوعي الكوبي بزعامة (فيديل كاسترو)، فحاولت مراراً اغتيال كاسترو، ومحاولات أخرى لاغتيال رفيقه غيفارا، الذي قرّر أن يخرج من كوبا، مُتنازلاً عن دوره في الحكومة الثورية الكوبية، ليبدأ رحلته الشهيرة إلى أفريقيا عبر الجزائر ومصر، عارضاً فيها خدماته لتحرير الشعوب، الرّازحة تحت الهيمنة الغربية في القارة السمراء، ومر بتجربة غير ناجحة في الكونغو، وبعد اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا، وتعرّضه للمُطاردة من قِبَل عملاء المخابرات الأميركية، قرّر العودة إلى أميركا اللاتينية، وفيها واصل نضاله المسلّح مُتنقّلاً، إلى أن طالته أيدي الغدر الأميركي عام 1967 في بوليفيا.

تختلف عمليات اغتيال الشخصيات المُستهدَفة، من أجهزة الاستخبارات الأميركية، بحسب الفرص المُتاحة لعملائها، وتتّفق كلها في أسلوب الغدر الذي يغلب على نهاية كل عملية، وسجلاتها جميعاً مُندرجة في مكاتب الوكالة، بمستوى السرّية التي تتطلّبها كل شخصية، وبعد مرور 70 عاماً على نشأتها تبدو بما حملته من أوزار ثقيلة اليد القذرة التي توكل إليها أعادوا مهام التخطيط والإشراف على جميع الجرائم السياسية بحق أنظمة وشخصيات ترى بالعين الأميركية المجرمة بحجم الخطر على النظام الأميركي ومصالحه في العالم، ومن الطريف هنا أن نذكر أن الرئيس الكوبي فيديل كاسترو قد تعرّض إلى ما يُقارب عشرات محاولات الاغتيال المُتتابعة من أجل تصفيته باعتباره يمثل خطراً قريباً من حدود أميركا بسياساته المُعادية لها.

وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وكما نُسِبَ إليها - وهو أقل ما يمكن نسبته مقارنة بإمكانياتها وفروعها وعملائها وقواعدها السرية والمُعلَنة - نفّذت خلال 70 عاماً، 80 محاولة للإطاحة بالحكومات التي تراها أميركا، لا تستجيب لإرادتها السياسية، وتمتنع عن الخضوع لإملاءاتها، وفي جميع القارات امتد نشاطها الخبيث، من كوبا سنوات الحرب الباردة، إلى إيران الإسلامية منذ انتصار ثورتها، وقطع اليد الأميركية منها، وتواصل بعد ذلك إلى أفغانستان والعراق، وما زال متواصلاً في البلاد العربية، بأشكال ومظاهر مختلفة.

نتذكر جيداً تغلغل الأميركي المعادي لحركات التحرّر في أميركا اللاتينية، والتي أطلقت عليها أميركا عملية "كوندور" والتي بدأت سنة 1968، والتي أسفرت عن تحطيم المعارضة السياسية اليسارية في كل من الأرجنتين وتشيلي وباراغواي وبوليفيا والبرازيل، بتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي للعسكر، في قمع اليسار بوحشية، ونظراً لطبيعة تلك العمليات السرية، فإن أقل أرقام لضحايا القمع، من الشخصيات القيادية اليسارية في تلك البلدان، تشير إلى أكثر من 60.000 ضحية، من قادة اتحادات العمال والفلاحين والطلبة، ومُنتسبي سلك التعليم، وسائر طبقة المُثقّفين، الذين اشتبه بانضمامهم إلى ثورة مسلحة.

إن الجهود التي تبذلها وكالة المخابرات المركزية والموساد، لتنفيذ ثورة مُخملية (ملوّنة) في إيران غير مجدية ومآلها الفشل. هذا ما قاله المُنظّر الأميركي في جامعة هارفارد (استيفن لندمن)، وجاء في تغريدتين على موقع (تويتر)، واحدة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والثانية لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين ناتنياهو، تصريحان منفصلان عبّرا فيهما عن فرح واستبشار، بما شهدته إيران من اضطرابات في الآونة الأخيرة، ضمّنت تعابيرهما تأييدهما لما جرى، ما رجّح تورّط وكالة المخابرات الأميركية والموساد، في إذكاء تلك الحركات الاحتجاجية المعزولة، بهدف تقويض الأمن والاستقرار في إيران، وهي أهداف مُدرَجة، ضمن جدول أولويات التدخّل الخارجي لهذين الجهازين الخطيرين، ليس على إيران فقط، وإنما على دول العالم المتمرّدة، على منظومة الاستعباد الأميركي الإسرائيلي.

لن تتوقف أجهزة الاستخبارات الأميركية وحلفاؤها، عن تصفية معارضي سياسة بلادها، ولذلك تأسّست، ويبقى على إيران المُستهدَفة ومحورها المقاوم، أن تتخذ ما يلزم من إجراءات لتفادي الإيقاع بها، وأعتقد أن ما هو مطلوب في هذا الإطار تحقّق، فقد تكسّرت أمواج الفتنة على شاطئ ولائي إيراني، يفرض بسياساته الإسلامية جزر الاستكبار الأميركي، ولا يقبل المدّ إلى عمقها الداخلي، وهكذا تبقى إيران قلعة صامدة عصيّة على أميركا.