ماذا تريد واشنطن من طهران
فبعد إنجاز الإتفاق فُتِحت الأبواب الإيرانية بوجه الشركات الإستثمارية الأوروبية وأخذت العقوبات الأميركية السابقة تُرفع تدريجياً، ودخلت العلاقة بين أوروبا وإيران مرحلة جديدة مع أن ألمانيا كانت أبرز المحامين عن المصالح الإسرائيلية في وقت المفاوضات على البرنامج النووري الإيراني في 2015.
لايُخفى على أحد أن الإتفاق على برنامج نووي سلمي لطهران الموقّع بين إيران ومجموعة الست في عام 2015، كان إتفاقاً منتجاً إلى درجةٍ كبيرةٍ لأنه كفل مصالح الأطراف المتعدّدة على اختلاف توجّهها وأهدافها، وربما كان العامل الأبرز الذي ساعد الأطراف المتحاورة حينها على إنجاز الإتفاق هو الصدق الإيراني في التفاوض، على أساس أن إيران لاتريد امتلاك النووي لأغراض الحرب وامتلاك رؤوس نووية وهذا جاء على لسان المُرشد الأيراني الأعلى السيّد علي خامنئي، وهذا الأمر حصراً ما كان يقلق الغرب في أن تصبح إيران قوّة عسكرية نووية.
فبعد إنجاز الإتفاق فُتِحت الأبواب الإيرانية بوجه الشركات الإستثمارية الأوروبية وأخذت العقوبات الأميركية السابقة تُرفع تدريجياً، ودخلت العلاقة بين أوروبا وإيران مرحلة جديدة مع أن ألمانيا كانت أبرز المحامين عن المصالح الإسرائيلية في وقت المفاوضات على البرنامج النووري الإيراني في 2015، وأتاح الإتفاق أيضاً للغرب الدخول إلى المنشآت النووية الإيرانية والإطلاع عملياً على نِسَبِ التخصيب بما يضمن استخدام الطاقة لأغراض سلمية.
ما تقدّم يُوضِح أن البرنامج النووي الإيراني ليس هو السبب الرئيس الذي دفع واشنطن للإنسحاب منه في مطلع أيار/مايو الماضي، وكانت الحجّة الرسمية للرئيس الأميركي دونالد ترامب هي "من الواضح أننا لن نستطيع منع إيران من تصنيع قنبلة نووية بهذا الاتفاق ذي البنية الضعيفة". بينما ترى بلدان أوروبية أن هذا الإتفاق هو الضامن المنطقي بالنسبة لهم لعدم امتلاك إيران قنبلة نووية، وما يدلّل على محاولة الإدارة الأميركية الالتفاف على الواقع هو أن إيران لن تخل ببنود الاتفاق ما سيمكنها من امتلاك قنبلة نووية، وثانياً: لو كانت المخاوف الأميركية من النووي الإيراني حقيقية فإن الانسحاب من الإتفاق قد يفتح المجال لإيران فعليا بامتلاك السلاح النووي.
السبب الأبرز وراء انسحاب واشنطن من الاتفاق الدولي الموقّع مع إيران وفرض العقوبات مجدّداً، يتعلق بصفقة القرن ودعم إيران للشعب الفلسطيني في المطالبة بحقوقه من خلال دعم بعض الفصائل الفلسطينية المؤثّرة وإقامة المؤتمرات التي ترفض وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فإيران تكاد تكون الطرف الوحيد عبر سياستها المباشرة وسياسة حلفائها وأصدقائها في المنطقة الذي وقف بوجه ما يُعرف بـ"صفقة القرن"، بالإضافة إلى دعمها المباشر للدولة السورية لاستعادة السيطرة على كافة أراضيها، وحلفها الرصين مع المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، حيث تأتي العقوبات الأميركية لمحاصرة إيران اقتصادياً وسياسياَ وحتى عسكرياً حتى تدخل الحكومة الإيرانية في مشاكل اقتصادية جمّة ودق إسفين بين الحكومة والشعب الإيرانيين وتتخلّى طهران عن حلفائها في محور المقاومة، لأن فلسفة هذا المحور قائمة على أن جميع الحلفاء فيه أركان مؤثرة ويجسّد مشروعاً للشعوب وليس للسلطات ، فإذا ضعفت إيران التي تقود المحور قد تتضعضع أركانه الأخرى، لتكون الخطوة الثانية هي خطوة تمرير المشاريع الأميركية - الإسرائيلية، في المنطقة من دون حسيب أو رقيب، في وقت تتسابق فيه بعض الأنظمة العربية لاستجداء رضا الولايات المتحدة عنها، وتنشغل بلدان أخرى بحروب وصراعات ومشاكل لإسرائيل وأميركا يد بإشعالها.
ولأن العقلية السياسية الإيرانية تتميّز بتلقّف الرسائل الخارجية سريعاً والرد عليها بشكل مناسب، ففي مناسبات عديدة أعلنت إيران صراحة وفي 16 تموز/يوليو على لسان آية الله السيّد علي خامنئي حيث قال "إن السياسة الشيطانية الأميركية المُسمّاة (صفقة القرن) لن تتحقّق إبداً وإن القضية الفلسطينية سوف لن تنسى رغم أنف المسؤولين الأميركيين".
وكمّا صعّدت واشنطن نبرتها عن طريق التلويح بمنع إيران من تصدير نفطها عبر مضيق هرمز، ردّت إيران أن المضيق إما يكون متاحاً للجميع أو ممنوعاً على الجميع، وحتى عسكرياً حيث ذكّر قائد قوّة القدس قاسم سليماني، الإدارة الأميركية بكيفية طلب الأميركان منه أتاحة فرصة انسحاب الأرتال العسكرية الأميركية من العراق من دون استهداف من قبل فصائل المقاومة العراقية التي تتميّز بعلاقة استراتيجية مع طهران، ملوّحاً في كلمته أن الحساب الأميركي سيكون مع الحرس الثوري الإيراني حصراً إذا تم ارتكاب حماقة تجاه إيران، وربما آخر رسالة وصلت من المرشد الإيراني زادت من جدية إيران في نيتها التصدّي لأميركا بكافة الوسائل عندما رفض التفاوض مع الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، وطمأن الشعب الإيراني أن الحرب العسكرية بعيدة وسوف لن تُقدم عليها إيران وحتى أميركا، وهذا في خانة الوعي الإيراني بأن العقوبات تأتي ليس لشنّ حربٍ بل لإبعاد إيران عن المنطقة العربية التي تمثل عائقاً كبيراً أمام سياسات واشنطن وتل أبيب فيها.
ومع دخول فرض إدارة ترامب عقوبات على طهران وقد تزداد خلال الفترة المقبلة كما هو معلن أميركياً، مقابل ذلك أعلنت دول كبرى عالمياً كالصين وروسيا عدم الأنصياع للعقوبات الأميركية، فحتى مع وصول العقوبات ذروتها ستكون هناك أكثر من رئة لتتنفس من خلالها طهران، وذلك لأن العقوبات تعتبر أحادية الجانب أي فقط من طرف أميركا وما يدور بفلكها من دول، ولم تكن عقوبات أممية كالتي عاناها العراق لثلاثة عشر عاماً منذ عام 1990، لكن عدم الانصياع للعقوبات الأميركية صينياً وروسياً وحتى تركياً في بعض المجالات كما جاء في الموقف الرسمي لأنقرة وحتى بغداد سوف لن تنصاع تماماً لما تتمنّاه واشنطن ودمشق وعواصم أخرى، هذا لايعني أن إيران سوف لن تتأثّر.. بل ستعاني إيران بعض الشيء، لكن الأهم أن الإيرانيين يُجيدون التعامل مع الحصار الاقتصادي أكثر من غيرهم، والنجاح الإيراني وأن يأتي بطيئاً في كسر العقوبات والثبات على المواقف المعادية لسياسية إسرائيل وتحديداً في فلسطين، هذا يعني أن إيران كسبت الجولة وبددت الأحلام الأميركية- الإسرائيلية، فما يدور حالياً من تهويل ووعيد نشاهده في بعض الإعلام العربي والعالمي يأتي ضمن سياسة الابتزاز التي تُمارس ضد إيران للتخلّي عن دعمها للقضايا العربية التي يُراد لها أن تغيب بمساهمة من بعض العرب.