شيطنة إيران
قد تتم قراءة العنوان من قِبَل القارئ وفق توجّهه وميوله بل وتعصّبه، فمنا مَن سيفسّر العنوان أن تحرّكات إيران وتصريحات إيران وردّة فعل إيران على التصريحات الأميركية المضادّة وتهديداتها، أو قد يقول تأثيرات إيران المباشرة وغير المباشرة، وربما يذهب ليقول نشاطات إيران وتدخّلات إيران قد تؤدّي إلى إشعال حرب في المنطقة.
وسيسرد القاضي هنا، وقد وصفته بالقاضي لأنه قد قرّر مُسبقاً وفق مُعطياته من جانب واحد وأغفل الجانب الثاني بقصد، وكذلك تفكيره وحدود رؤيته وميوله، أن إيران قد تدخّلت بشكل مباشر في العراق بعد سقوط دولة صدّام حسين، وأصبح لها كلمة مسموعه ومؤثّرة وكلمة لدى السياسيين والأحزاب والهيئات العراقية والمنظمات المدنية العراقية ، بل ربما المرجع الديني العراقي ، ولن يلتفت القاضي والحكم هنا إلى أن إيران لها حدود مشتركه مع العراق ، ومصالح سياسية واقتصادية وتأثير جيوسياسي مثلها كمثل أية دولتين متجاورتين ، تؤثران على بعضهما البعض اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وسيغيب هنا سؤال يفترض أن يطرح بكل شفافية أين كان دور الدول المجاورة الأخرى للعراق ولِمَ لم تفعل مثلما فعلت إيران . !
وسيذهب أيضاً هذا المحلّل إلى سوريا، وتدخلات إيران ودعمها لنظام الحُكم السوري، من دون أن ينظر ولو بقليل من الموضوعية، إلى وجود ترابط عقائدي بين بعض فئات المجتمع السوري والشيعة في إيران، والعلاقات الوطيدة القديمة بين نظامي الحُكم في البلدين، وقراءة إيران مبكراً البُعد الجيوسياسي والخطر الذي قطعاً كان سيصيبها مباشرة، في حال سقوط نظام دمشق، لذا تدخّلت وبصرف النظر بطلب دمشق أم من دون طلبها. وسيظهر نفس السؤال هنا ويفرض نفسه على قارئ الأحداث في المنطقة، أين كان دور الدول المجاورة لسوريا لِمَ لم تدعم بقاءه بدلاً من إسقاطه وتسليم البلد للمتطرّفين؟! ولِمَ لم تفعل مثلما فعلت إيران! حيث الجميع أخيراً اعترف بعدم صواب خططهم لكن بعد خراب سوريا وليس مالطا.
ونفس المنوال ونفس الأسطوانة سوف نستمع إليها هنا في مسألة دعم إيران لحزب الله في لبنان، وهيمنته على جزء كبير من الساحة السياسيه، خصوصاً بعد الأنتخابات البرلمانية الأخيرة، وبنفس المنوال وفي نفس السياق يستمر الرسّام في رسم نفس الرسومات التشكيلية في المنطقة حتى أوصلنا إلى اليمن، ولايكترث أحد بطرح نفس السؤال أين كنتم وأين كان دوركم عندما تحرّكت إيران في تلك المناطق وأنتم تتفرّجون! أم أن هناك محركاً خارج اللعبة وخارج المنطقة هو الذي يحرّك رقع الشطرنج لمصلحته متى أراد وأينما أراد ولمن أراد وعلى من أراد.
هذه الرؤية من منظار طرف يضع كل الأعباء على الطرف الإيراني ، ويضع كل اللوم على إيران بسبب ليس تموضعها في المنطقة ، وطبيعة تحرّكها كدولة لها تاريخ مؤثّر منذ آلاف السنين، وهنا هو يغفل ذلك ولايريد الأشارة اليه ، بل لايريد أحد أن يبرزه ، وإنما حسب رؤيته وتسميته تمدّدها واتساع رقعة تأثيرها أو سيطرتها في هذا الاقليم الساخن ، وغمضة العين لنفس السؤال المطروح في كل حال من الحالات السابقة .
من هنا سيكون الناظر لكل تلك التحرّكات وبسط النفوذ الإيراني في المنطقه على أنه تدخّل في شؤون الغير والدول والمجتمعات . وبالتالي سينظر إلى كل تلك التحرّكات الإيرانيه على أنها شيطنة قد تؤدي إلى كوارث .
هذا جانب قراءة من منظار مَن يرى إيران أنها قد تجاوزت حدودها أو حدود الاقليم ، رغم أن السياسة والمواقع الجيوسياسية والمصالح لم تعد تنحصر في الدول المجاورة والحدودية ، في زمن التنافس الدولي وبسط النفوذ والمصالح الاقتصادية والتجارية بل والعسكرية أيضاً . وإلا على هؤلاء أن يعودوا للسنوات الماضيه ويسألون أنفسهم ما الذي أوصل البرتغال أن تستعمر اأدونيسيا وما الذي أحضر فرنسا لتبسط نفوذها في جزر تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحلها ، وكذلك بريطانيا وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية .
وكأن هؤلاء يريدون من إيران ألا تتجاوز حدود الدول الحدودية معها ، وفي نفس الوقت نرى ونشاهد نشاط دول أخرى تجاوزت القارة بذاتها منذ سنوات ، وبثّت ثقافتها بل وشرعت في إنشاء قواعد عسكرية لها في المنطقة وبجانب الساحل الإيراني . فهل ميزان المساواه هنا عادل أم هناك موازين لكل حالة . !
والناظر من الطرف الآخر وبمنظار محلّل سياسي مستقل وغير مُحايد سيرى وسيبرّر أن بسط النفوذ الإيراني على الساحة العراقية حق مشروع بل ومتوقّع ، لدوله قدّمت الكثير للعراق بعد سقوط سلطة صدّام حسين ، في الوقت الذي تركه أشقاؤه العرب، وسيرى أيضاً مسألة دعم نظام دمشق هي مسألة تحالف قديم بين الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والنظام الإيراني.
وسينظر لهذا الدعم على أنه تفعيل لما تدّعيه وتزعمه إيران، بالمقاومه ضدّ إسرائيل المُغتصبة لأرض فلسطين، والقدس بؤرتها كمدينة إسلامية مقدّسة، والإيرانيون هم من أبرز المنادين لتحرير القدس بصرف النظر عمن نصدّق أو مّن هو الصادق هنا، هذا جناح والجناح الآخر هو دعم كل من يفتح جبهة على حدود فلسطين المحتلة، هنا يظهر حزب الله اللبناني والجناحان متلازمان متطابقان وأحداث السنين أثبتت صدق تلك المقولة والتحليل وأنا هنا أحلّل ولا أبرّر لأيّ طرف كان. أما لوعرّجنا على اليمن فموقف إيران الملموس إعلامي أكثر مما هو غير ذلك ، حيث أن الإيرانيين قاتلوا وقتلوا في العراق وفي سوريا ، أما في اليمن فحتى الآن لم نشاهد أيّ إيراني حياً أو ميتاً، لذا لم تثبت بالملموس أدلة التدخّل سوى الإعلامي ، أما الدعم المادي والسلاح فمسأله تحتاج إلى براهين وأدلّة ثابتة ، غير مشكوك فيها وغير مجاملة لطرف على حساب آخر ، وكون أن إيران تدعم إعلامياً الحوثيين (أنصار الله) فالمسألة هنا قريبة من مبرّرات دعمها لسوريا والعراق في ظلّ التنافس على بسط النفوذ الطبيعي لمن يُخطّط للمستقبل ، وتلك عيوب العرب حيث نرى تخطيطهم فقط لبضع سنوات والآخرون يخطّطون لعشرات السنين .
فقد ترك العرب وجيران اليمن البلاد السعيده تعاني سنوات من الفاقة ، ولما وصل الأمر إلى أن تحرّك الحوثيون ( وهم فئة من المجتمع اليمني زيدية قريبة من المذهب الشيعي في إيران ) وسيطروا على مناطق واسعة من اليمن بمافيها العاصمه صنعاء ، كان الجميع يتفرّج وكأن الأمر لايعنيهم ، وهنا ذهبت إيران إلى أبعد ما توقّعه جيران اليمن ، وإن كان المفروض منهم أن يتحرّكوا من وقتٍ مبكرٍ فهل تُلام إيران هنا ؟ أنا هنا أسأل ولا أزكّي أو أبرّر ما حصل في بلادي اليمن من كل الأطراف. بالتأكيد في مسألة اليمن هناك تنافس ظهر في السنوات الأخيرة بين السعودية والتي كانت تعتبر نفسها الممثلة والقائدة للجانب السنّي من المسلمين ، وبين إيران التي تعتبر أنها المرجع الديني للشيعه المسلمين .
انعكس هذا التنافس على الأرض اليمنية ، وأظن ما يحصل من سباق وبسط نفوذ في سياق السيطرة على اليمن من كلا الطرفين أمر طبيعي يندرج في إطار بسط النفوذ بين قوّتين كبيرتين في المنطقة. لكن المسألة هنا تشعّبت ، ودخلت أو أدخل الطرفان المتنازعان على بسط نفوذهما في المنطقة والاقليم أطرافاً وقضايا خارجية بعيدة كل البعد عن المنطقة وسكانها ومصالح مجتمعاتها .
الطرف الخارجي قدّمت له دول المنطقة المتنافسة على السيطرة والنفوذ بشكل مباشر أو غير مباشر الملف على طبق من فضة ، وتشعّبت الأمور وأصبح العالم ينظر للمسألة ولحرب اليمن من عدّة جوانب متشابكة . أبرزها إسرائيل فقد تلقّفت الملف من بعيد وأوهمت دول الخليج وبعض العرب أن عدوهم الأول هو إيران ، وسوّقت ولازالت تسوّق لهذا العنوان وبقوّة ، وتتمنّى الحرب على إيران اليوم قبل الغد ، من دون أن تكترث أو تحسب حساب تأثيراتها الكارثية عليها وعلى المستوطنين أو على دول الخليج وشعوبها بل والمنطقة عامة .
أميركا تنصّلت من الاتفاق النووي بحجج سوّقتها إسرائيل لها وبحجج إسرائيلية مغلّفة بغلاف أميركي، وبدأت أميركا تزمجر وتهدّد وتطلق التصريحات العنترية من دون أية دراسة لما بعد إشعال الحرب في المنطقة. هاتان الدولتان كأنهما تخططان لقيام حرب أو حرب بالوكاله لاتتدخّلان فيها بشكل مباشر، فقط تبحثان عن مسبّبات ولن تعجزا عن إيجاد ذلك ، فلهما سوابق في أكثر من مكان في العالم واحتلال العراق عام 2003 أقرب الأحداث الدولية.
بالتأكيد إذا ما اشتعلت الحرب ضد إيران فلا نتوقّع أن تتلقّى إيران الضربات وتكتفي بالصراخ والتنديد ، فأمام إيران حزمة من المصالح والمواقع الأميركية على بُعد عشرات الأميال في المنطقة وعلى أكثر تقدير مئات الأميال ، فهل يتصوّر عاقل أن تكتفي إيران بتلقّي الضربات التدميرية من دون أن تكون لها ردّة فعل في منطقة أقرب لها من سواحل أميركا وحيفا!.
لا أظن ولا أتوقّع أن تكتفي إيران بالصراخ والشكوى في مجلس الأمن ، لأنه في هذه الحال ستسقط هيبة إيران وسمعتها كقوّة مؤثرة ، بل ربما نووية في المنطقة وإن حصل ذلك فستكون نهاية نظام الحُكم في إيران ، وربما تفكّك للأراضي الإيرانية عدا أن شرارتها وتفاعلاتها قد تصل إلى جيرانها الروس لذا فمن المستحيل حصول ذلك من وجهة نظري. ويبدو أن دونالد ترامب قد أدرك ذلك جيداً أخيراً وتوقف عند تصريحاته العنترية وذهب لتقديم عرضه في تكرار مسرحية فاشلة منذ بداياتها في لقاء رئيس كوريا الشمالية في سنغافورة ، ولكن الإيرانيين كانوا أكثر دهاء وحنكة كعادتهم ورفضوا ذلك العرض.
ومن المؤلم بعد عشرات السنين من البناء والتشييد والإنجازات التحتية والعمرانية والمدنية والعسكرية ، ويأتي يوم تذهب كل تلك المنجزات ضحية تصرّفات شيطانية ، أو ردة فعل لتصرّفات شيطانية من جهات خارج الاقليم والمنطقة ، رغم تأكيدي أن تلك الجهات التي ستشعل الحرب (لاسمح الله وأرجو ألا تحصل ) ستكون هي التي ستتزعم دور الإعمار ما بعد الحرب وتلك مهزلة وغباء أيضاً ، وبالتالي تلك الأطراف الشيطانية هي المستفيدة في الحالين ، حال السلم والشد وتكديس السلاح والحروب بالوكاله وحال الحرب الحقيقية في المنطقة إن غاب العقل والمنطق ، وهنا وجه الغرابة والغباء في وقت واحد .
هنا نتوقّف لدى عنوان المقال بعد التحليل المُختصر ألا وهو مَن يشيطن مَن هنا ... ؟
وتبرز تساؤلات بريئة هنا هل توسّع بسط نفوذ إيران في المنطقة واستغلالها للظروف بشكل ذكي شيطنة ؟
أم ترك الدول الرئيسة في المنطقة إيران تفعل ماتشاء وبعد فوات الأوان يعتبرونها دولة من دول محور الشر يجب محاربتها ؟
وهل المناداة بضرب إيران هي الخيار الوحيد ، من دون النظر إلى أن إشعال حرب في غاية السهولة وحتى من دون مبرّرات وحجج لكن أطفاءها والتحكّم بمساحة الحريق الذي سيشتعل في المنطقة ليس بيد أيّ أحد كان . وهنا على العقلاء في المنطقة أن يدركوا جيداً أن الشيطان يتقن حرفنة لعبة تعدّد الوجوه والمواقف.