إصلاح اقتصادى أم انحلال اقتصادى "تعويم الجنيه"

ما أن قامت الدولة المصرية بــ "تعويم الجنيه" في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 حتى انخفضت قيمة الجنيه (على عكس المتداول من ارتفاع لقيمة الدولار، حيث أن الدولار كما هو إنما انخفضت قيمة الجنيه)، وأيضاً تداولت الشائعات أن انخفاض قيمة الجنيه ليست له أية مميّزات وتقريباً في نفس التوقيت كانت الصين تدفع بعملتها لخفض قيمتها من خلال زيادة المطبوع منها، لأن ببساطة عند انخفاض قيمة عملتك في التبادل مع عملات أخرى سيحفّز زيادة الصادرات وخفض الوارادات.

التجربة المصرية كانت مُحصّلة لصعوبات اقتصادية أفضت إلى تآكل احتياطات الصرف

دائماً ما كنا نشعر بالحيرة والدهشة عند سماع بعض المُصطلحات الاقتصادية ويصعب علينا فهمها، وكان هذا الأمر يتوقّف عند دارسي عِلم الاقتصاد الذين كانوا على الأقل يستطيعون فَهْم ما يقوله مُحلّل النشرة الاقتصادية، ولكن بعد صدور قرارات اقتصادية عديدة من قِبَل الحكومة المصرية ضمن خطوات ما يُسمّي بـ "الإصلاح الاقتصادي" فأصابت الحيرة الجميع، من العامة إلى النخبة، هل ما يحدث في مصرنا الحبيبة "إصلاح اقتصادي" أم "انحلال اقتصادي"؟!

وإجابه هذا السؤال ستتطرّق إلى عدّة مقالات منها هذا المقال، والذي ستنتناول فيه أولى قرارات الحكومة ألا وهو:  ما عُرِف إعلامياً بـ"تعويم الجنيه".

بداية، كل دولة لديها عملة هي تمثل جزءاً من سيادتها مثل العلم والنشيد والحدود، ولديها سعر صرف لتلك العملة مع عملة دولة أخرى.
التجارة الخارجية كانت السبب في ما يُسمى بسعر الصرف حيث تقوم الدولة (أ) بمبادلة عملتها مع الدولة (ب) حتى تتمكن من القيام بعملية الاستيراد منها.
وما أن قامت الدولة المصرية بــ "تعويم الجنيه" في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 حتى انخفضت قيمة الجنيه (على عكس المتداول من ارتفاع لقيمة الدولار، حيث أن الدولار كما هو إنما انخفضت قيمة الجنيه)، وأيضاً تداولت الشائعات أن انخفاض قيمة الجنيه ليست له أية مميّزات وتقريباً في نفس التوقيت كانت الصين تدفع بعملتها لخفض قيمتها من خلال زيادة المطبوع منها، لأن ببساطة عند انخفاض قيمة عملتك في التبادل مع عملات أخرى سيحفّز زيادة الصادرات وخفض الوارادات.
بفرض إننى أقوم بتصنيع آلة قيمتها 100 ألف جنيه والدولار ب 10 جنيهات وبالتالي أقوم بتصديرها مقابل 10 آلاف دولار مع وصول الدولار إلى 20 جنيهاً ستكون قيمة الآلة بالدولار 5 آلاف دولار إذاً سيتمكّن المستورِد (الذي يقوم باستيرادها منا) من استيراد عدد أكبر بنفس المبلغ .


سنتكلّم في المقال في النقاط التالية:
1- ما الأسباب الداعية إلى تعويم الجنيه
2- ما الذى تحكّم في اختيار توقيت وكيفية تعويم الجنيه


أولاً: الأسباب الداعية إلى تعويم الجنيه
الهدف الأول: خفض عجز الموازنة والدّين العام، حيث سجلّت نسبة العجز في الحساب الختامي لموازنة 2015-2016 نحو 12.2%، مقارنة مع 11.5% في السنة المالية السابقة، كما تستهدف أيضاً خفض الدّين العام الذي ارتفع بنِسَبٍ كبيرة خلال الفترات الماضية.
الهدف الثاني:  استكمال إصلاح منظومة الدعم وترشيد الإنفاق الحكومي، وتنفيذ أحد أهم اشتراطات صندوق النقد الدولي، حتى يتسنّى للحكومة المصرية الحصول على ثقة الصندوق وموافقته على القرض الذي أعلن عنه أخيراً بقيمة 12 مليار دولار.

الهدف الثالث: يتركّز في خفض الواردات ووقف الاستيراد العشوائي، حيث تُشير الأرقام والبيانات المُتاحة إلى أن فاتورة الاستيراد في مصر تتراوح ما بين 70 و80 مليار دولار سنوياً، ما يضغط على احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.

الهدف الرابع:  يتمثّل في زيادة الصادرات وتشجيع الاستثمار المحلّي والأجنبي، خاصة أنه لا يمكن عودة الاستثمارات الأجنبية في ظلّ وجود سعرين للدولار في السوق، ووصول الفجوة بين السعر الرسمي للدولار وسعره في السوق السوداء إلى أكثر من 100% خلال فترة ما .

الهدف الخامس:  تحقيق التوازن المطلوب بين الإجراءات الترشيدية والاحتواء الكامل لآثارها على محدودي الدخل، من خلال زيادة حصيلتها الدولارية، وتمكّنها من توفير الدعم لمحدودي الدخل فقط، ويتبع إجراء تحرير سعر الصرف إجراء آخر يتمثّل في التحوّل من الدعم العيني إلى الدعم النقدي لمحدودي الدخل.

الهدف السادس: تمكين البنك المركزي المصري من الالتزام بتوفير الدولار لسدّ الفجوات الاستيرادية في السلع الأساسية والاستراتيجية، خاصة أنه مع قرار رفع الفائدة على السندات والشهادات الدولارية ارتفعت حصيلة البنوك المصرية في الساعات الأولى من صدور قرارات التعويم بنحو 8 أضعاف، وفقاً لما أعلنه رؤساء أكبر بنوك في مصر.

الهدف السابع: القضاء على ظاهرة الدولَرة والمُضاربة على الدولار في السوق السوداء، التي يوجد فيها أكثر من 40 مليار دولار وفقاً لتقديرات غير رسمية، بينما لا تمتلك خزانة البنك المركزي المصري سوى 19.5 مليار دولار فقط.

الهدف الثامن: في كشف حجم العَرض والطلب الحقيقيين على الدولار، بعكس الصورة الوهمية التي يحاول تجّار العملة والمُضاربون على الدولار تصديرها للتمكّن من رفع سعر صرف الدولار الذي لامسَ مستويات 18.5 جنيه خلال الأيام الماضية، بسبب المُضاربات العنيفة، وليس بسبب الطلب الحقيقي على الدولار.

الهدف التاسع: استهداف معدّلات التضخّم التي لامست مستويات صعبة خلال الأيام الماضية، وكان من المتوقّع ومع عدم تدخّل البنك المركزي المصري، أن تسجّل مستويات جديدة لتصبح حقيقة يصعب التعامل معها على المدى القصير، لكن من المتوقّع وعقب استيعاب السوق لصدمة تحرير العملة أن تبدأ الأسعار في العودة إلى معدّلاتها الطبيعية، بما ينعكس إيجاباً على معدّلات التضخّم التي سوف تهبط على المدى المتوسّط والبعيد.

الهدف العاشر: تحريك المياه بالبورصة المصرية التي شهدت خروج جزء كبير من السيولة خلال الفترات الماضية للمُضاربة على الدولار، ما انعكس بشكلٍ سلبي على أحجام وقِيَم التداول وهروب المُستثمرين العرب والأجانب من السوق المصرية، خاصة أنها شهدت حالاً من عدم الاستقرار والخسائر الحادّة          .

ثانياً: ما الذي تحكّم في اختيار توقيت وكيفية تعويم الجنيه
بداية يجب أن نعلم بأن توقيت الإجراء يتحكّم في كيفيته بمعنى اتخاذي قراراً بالهجرة بعد عام من الآن سيمكّنني من اختيار أفضل الوسائل للهجرة والبحث عن أفضل مكان يمكنني الهجرة نحوه، وهكذا على العكس في حال قراري الهجرة بعد شهر فإننى سأقبل بأي عرض أمامي سواء الطريقة أو المقصد.
هذا تماماً ما حدث في حال تعويم الجنيه، فكان من المفترض اتخاذ الإجراء في أول 2016 ولكن الاضطرابات الأمنية والسياسية أدّت إلى تأجيله إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2016 حوالى عام كامل، هذا من ناحية التوقيت، وكما ذكرنا فإن التوقيت أثّر بالتبعية على الكيفية حيث تم التعويم مرة واحدة ولم يكن تدريجاً كما في التجربة المغربية التي اتّخذت سياسة انتقالية عُرِفت بـ"سعر الصرف المَرِن" تمهيداً للتعويم الحر.

وبِذِكْر التجربة المغربية ذَكرَ المُحلّل الاقتصادي المغربي مهدي فقير، في حوار مع موقع "الحرة"، أن التجربة المصرية كانت مُحصّلة لـ"صعوبات اقتصادية أفضت إلى تآكل احتياطات الصرف"، ما دفع القاهرة إلى اعتماد إصلاحات "جذرية ومؤلمة"، كتعويم العملة المحلية من أجل إعادة رفع مستويات الاحتياطي النقدي الآخذ في التناقُص، لإعادة التوازُن إلى الموازنة المالية العامة.

ويقول فقير إن هذا الإصلاح أفضى إلى نتائج "ربما تكون مُتناقضة"، فهو كان في صالح القوّة التصديرية للاقتصاد المصري، لكنه رفع مستويات التضخّم وأثّر على القُدرة الشرائية للمواطن المصري، مُستدركاً أن عدد سكان مصر الذي يصل إلى 100 مليون شخص يوفّر فرصة نمو حقيقية للاقتصاد هناك.
فى نهاية الأمر سنجد بأن إجراء تعويم العملة ما هو إلا إجراء وحيد لم يؤثّر ذلك التأثير الذي يمكننا من خلاله الحُكم على ما تقوم به الحكومة من إجراءات بأنها إصلاح أو انحلال اقتصادي لذا يجب علينا أن ندرس باقي الإجراءات التي سنتناولها تِباعاً في المقالات القادمة .