عندما تتكلّم أميركا بمنطق المهزوم مسبقاً

عندما تُقدم أميركا على اقتراف جريمة ما - وعادة ما تكون قصفاً بأعتى أسلحتها - صواريخ أو طائرات، تُسارع إلى الاعتراف بأن خطأ في تقدير الهدف قد حصل، تنصّلاً من المسؤولية والتّبعة على تلك الجريمة، وتعمل ما في وسعها على تحييد أي مشروع قرار قد يصدر من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بذلك الشأن يدينها .

سياسة نقض العهود من طرف الإدارة الأميركية قديمة بسبب استكبارها على بقية دول العالم

جرائم أميركا لو فتحنا عليها باباً خاصاً لتقصّيها، لما كفته تحميلاً، بتنوّعها واختلاف أشكالها، العسكرية والسياسية والاقتصادية والتجسّسيّة والعلمية والبيئية والحقوقية وجميعها بحق الإنسانية المظلومة، وقوانينها المستخفّ بها، وبيئتها المنتهكة.
جرائم ترتكب بغطاء المكر و الخداع، وتحت عناوين معاكسة تماماً لدلالاتها، كما دلّت عليه جرائم تحالفها الأول، لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا، وما أسفر عليه من ضحايا مدنيين، وآخرين عسكريين تعمّدت إصابة نقاطهم العسكرية، ولا مبرّر لها في ذلك، سوى دعم مشروعها الإرهابي الوهابيّ نفسه، واعطاء بقاياه فرصة التقاط انفاسه الأخيرة المتقطعة، من ضربات التحالف الحقيقي ضدّه، الذي تقوده جمهورية إيران الإسلامية، ومحورها المقاوم، الذي أسّسته بجهودها الجبّارة الصادقة - تذكر بثناء الشكر والتقدير- ولولا إيران الإسلامية، لضاعت قضايا تحرّر الأمّة الإسلامية من الاستعمار والتبعية، وعلى رأسها قضية فلسطين والقدس.
وجرائم أخرى بدأت تتجلّى فيها بصمات أميركا، تحت مُسمّى تحالف إعادة الشرعية في اليمن، ترعاها بوقاحة لا نظير لها، كاتمة بهيمنتها أصوات الإعلام العالمي، لمنعه من تقديم الصورة الحقيقية لما يجري على أرض اليمن، من جرائم بحق شعب أبيّ مظلوم، طفح لها كيل أحرار العالم، فهبّ منهم من هبّ مندّداً بها في مختلف عواصم العالم، لعلّه يدير أنظار وشعوب العالم إلى أي حدّ وصلت هذه الجرائم؟
وطبيعي أن يبلغ استهتار الإدارة الأميركية، بكل تعهّداتها والتزاماتها واتفاقاتها، فلا شيء في عُرفها يستحق القيمة عندها، ولو كان متعلّقاً بترابط شعبها - واحتمال انفجار عرقيّ فيه - من ممارسات وجرائم البيض من أصول أوروبية، ضد السود من أصول أفريقية، تتكرّر كل يوم وعلى امتداد ولاياتها، يرتكبها العنصريون هناك.
سياسة نقض العهود من طرف الإدارة الأميركية قديمة، وتنصّلها من التزاماتها التي أمضت عليها تجاه المجتمع الدولي، قديمة ومتنوّعة بسبب استكبارها واستعلائها على بقية دول العالم، وقد بلغت خروقاتها عنان السماء استهتاراً بالقِيَم والقوانين الإنسانية، حتى بدت في آخر مطافها سخيفة باستجابتها لنزوات لُقطائها وعملائها على حساب مصالحها، فكان منها التنصّل من الاتفاق النووي الإيراني 5+1 والخروج منه ومن قبله الخروج من منظمة اليونسكو أواخر سنة 2017، وقد فعلت ذلك من قبل فرفضت الدخول في مجلس حقوق الإنسان عند إنشائه سنة 2006، في عهد (جورج بوش الإبن)، ولم تدخل فيه سوى سنة 2009، في عهد (باراك أوباما)، وفي هذه السنة ومنذ أسبوع، أعلنت أميركا خروجها من مجلس حقوق الإنسان، المنبثق عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بدعوى تحيّزه ضد لقيطتها إسرائيل.
لم تكتفِ أميركا كما أسلفت من التنصّل من التزامها، وخروجها من الاتفاق الذي أمضت عليه، بخصوص الملف النووي السلمي الإيراني، بل طلع وزير خارجيتها (مايك بامبيو) ب 12 شرطاً، طرحه للتوصّل إلى اتفاق جديد مع إيران، مستحّثاً بقية الدول التي أمضت عليه، إلى الحذو حذوها ومساندتها.
بامبيو وفي تصريحه المُتلفز يوم 21 /5/2018، كشف عن استراتيجية أميركية جديدة من 7 محاور لمواجهة إيران الإسلامية، أساسها الضغط الاقتصادي عليها، ملوّحاً بلهجة استكبارية مريضة، أن إيران ستتعرّض للعقوبات الأكثر قسوة في التاريخ، إذا لم تنزل عند الرغبة الأميركية.

المطالب الـ12 التي طرحتها أميركا، بدت بعيدة عن التحقيق من الجانب الإيراني، لأنها باطلة من أساسها، ومتعارضة تماماً مع سياسات إيران الإسلامية، واستراتيجيتها السليمة في مقاومة الإرهاب الحقيقي المُدمّر للعراق وسوريا، والمُهدّد لحدودها الغربية، والذي ترعاه أميركا، وتمارسه الصهيونية في فلسطين والجولان المحتلين، بينما ترى في كفاح الشعب الفلسطيني، وجهاد فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق واليمن بعين العداء، فتصنّفه إرهاباً ترعاه إيران الإسلامية، يجب عليها أن تتوقّف عنه وتنسحب من سوريا.
لم يتأخّر ردّ وزير الخارجية الإيراني السيد جواد ظريف على الشروط الأميركية، فجاء في مقالة نشرتها الصحف الإيرانية، وجّه فيها اتهامه لأميركا، بانتهاك الاتفاقيات الدولية، وخرق القوانين والعهود، والسعي إلى تدمير أية شرعية، تسعى الدول للتوصّل إليها، توافقاً منها وصوناً للأمن والسلم العالميين، وفي المقابل طرح 15 شرطاً على أميركا، كردّ دبلوماسي حاذق، وصفها بالضمانات التي يجب على أميركا الالتزام بها، كاختبار على مدى وفائها، وهي رفع العقوبات الاقتصادية المسلّطة على إيران، وسحب قواتها المتواجدة في المنطقة، واحترام سيادة إيران نظاماً وشعباً وأرضاً، والعودة إلى الاتفاق النووي والالتزام ببنوده، وتعويضها عن الخسائر التي لحقت بالاقتصاد الإيراني، وإطلاق سراح جميع المواطنين الإيرانيين وغير الإيرانيين، المتّهمين بانتهاك الحظر والعقوبات على إيران، ووقف دعم إسرائيل، وإدانة العنصرية وانتهاك حقوق الإنسان، ووقف بيع الأسلحة، وإجبار إسرائيل على نزع سلاحها النووي.
غير أن السيّد ظريف خلص إلى القول، بأن التطلّع لتغيير السلوك الأميركي لا يبدو وقعياً، في ظل الظروف الراهنة، كأنما لسان حاله يقول، أن شروطه التي ردّ بها على شروط بامبيو، هي شروط واقعية وصحيحة قانوناً إسلامياً ودولياً، وليست تعجيزية استكبارية ظالمة، كما هي حال ما صرّح به هذا الأخير.
ومع استقامة الدبلوماسية الإسلامية الإيرانية، ووضوح مسارها في مختلف القضايا المحلية والدولية، وظهورها في جميع الاستحقاقات، بمظهر صاحبة الحجّة الأقوى والموقف الأصوَب، تبدو سياسات أميركا وحلفائها مُتناقضة ومُتباينة، ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية، ومنقلبة حتى على نفسها، كما هي حال أميركا بشأن الاتفاق النووي الإيراني، وعلى ضوء ما ذكر، وبقطع النظر عما سيسفر عنه الموقف الأوروبي، في مواجهة أميركا، من التزام ووفاء تجاه إيران من عدمه، يرجّح أن يكون عجزاً عن كسر الطوق الأميركي، يبدو الموقف الإيراني الأكثر ثباتاً، وهي تنتظر حتى موفى هذا الشهر، لتعلن موقفها النهائي من محصّل الجهود الأوروبية، وقد أعدّت له كما يجب، رغم كل الضغوط الاقتصادية المسلطة عليها، والتي سوف لن تجد أميركا شيئاً أقوى منها، اقترفته بحق إيران.
وبكلمة أخيرة أقول إن النظام الإسلامي في إيران ليس كوبا، أو كوريا الشمالية، أو فنزويلا، حتى تنجح أميركا في سياساتها تجاهها، الأمر مختلف باختلاف الفكر والعقيدة السليمين.