تغيير الحكومة الأردنية .. ماذا بعد؟
لا نريد أن تكون إقالة الملقي امتصاصاً لغضب الشارع فحسب، بل يجب أن تكون التبعة المنصفة الحكيمة إلغاء التعديل الضريبي وليس وقفهِ لاحتواء الشعب وتنفيذهِ في موعد آجل. يجب على الحكومة الحالية ومعها جلالة الملك تقدير الوضع الراهن والتفاعُل مع الشعب والنقابات والمؤسّسات المدنية حتى لا يستطيع الحاقدون استثمار الغضب وتصعيده ليأخذ منحنى – لا سمح الله – لا رجعة فيه.
استطاع الشارع الأردني بعد عناءٍ وتظاهرٍ فريدٍ من نوعه شابَهَ الذي دار في المغرب، قبل بدء شهر رمضان بسببِ الفساد الحكومي ورَفْع أسعار بعض السلع الغذائية كالسمك والحليب والمياه والغاز والمحروقات، والتي استمرّت حتى انخفضت الأسعار جبراً بقيمة تجاوزت 50℅ من قيمة السعر الأصلي للمنتج. أما الأسماك فكانت تُرمى في البحر أو تُتلَف لعدم الإقبال عليها.
وقد حذا الأردنيون حذو أخوتهم في المغرب ومارسوا حقّهم المشروع بالاعتراض على القانون الضريبي الجائِر ومقاطعة بعض السلع كالمحروقات للضغط على الحكومة وإجبارها على الاستقالة، ولولا تدخّل الملك ليُجبر"المقلي" أقصد الملقي، على استقالته لبقي يتابع الاحتراق في الشارع وكأنه لا يعنيه، فيقينه أن الوزارة ما هي إلاّ "كعكة" يقتصّ منها قدر ما أمكن، فإن تركَها آلت لغيره مِمَن شابهه. هذه هي الحقيقة المؤسفة منذ ما يزيد عن العشرين عاماً في الأردن.
هل الشارع الأردني الآن على استعداد للقيام بتظاهرات شبيهة كالتي كانت في الأسابيع السالفة؟ وكم هو حجم طاقة هذا الشعب روحياً ومادياً للوقوف مرة أخرى للدفاع عن حقوقه دائمة الإستباحة في الآونة الأخيرة؟ هل استبدال الملقي بالرزاز أنهى الانتهاكات الحكومية للمواطن؟ أم هو استنساخ حكومة بحكومةٍ وأسماء بأسماء لرجال الدولة التي آلت إلى إرث يحمل المواطن إزره؟ فلو تمعنّا أصحاب القرار منذ بداية الخمسينات حتى التكليف الأخير وخيبة الأمل "الرزاز" لوجدنا التركة في السلطة كإرث البلاء في الجسد، والتشكيل الوزاري الجديد لم يختلف عن سلفه من حيث النفوذ المتمكّن في بعض الأُسَر أو بحجم الفساد السائد بينهم، فمثلاً التشكيل الحالي من المعشر والمعايطة والفايز والمصري وقعوار واللائحة تطول من حيث الأسماء والنفوذ منذ تأسيس المملكة حتى اليوم. أسماء ألفناها فقط في السلطة.
والأمر الآخر هو إقصاء الفئة الشبابية من التشكيل الوزاري وبصورة ممنهجة بحيث يبقى النظام على شكله ومن شاكلته، فكلهم تجاوزوا الخمسين عاماً وآخرهم في السبعينات يمينه في الوزاره وشماله في القبر. فكيف بالله سنرقى بغدٍ أفضل وما حكوماتنا غير حكومات استنساخ واستنزاف خالية من القدرات السياسية؟ أم أن المؤهّل الوحيد لتسلّم إحدى الوزارت هو "من تعرف لا ماذا تعرف"؟
الشعب الآن في الأردن ليس على استعداد لخوض معارك جديدة مع الحكومة، فقط للدفاع عن حقوقه. فهو يطمح للطمأنينة والأمن الحقيقين ليستمر في العطاء ويتكاتف مع الحكومة يداً بيد للنهوض بالوطن ليبقى المأمن رغم المخاطر التي تهدّده من جميع حدوده، إما بمقاطعات من دول شقيقة أو من العدو الاستراتيجي إسرائيل، فليس هناك من مصدر حقيقي للوقوف مع الوطن مؤسّسة ومَلِكاً أكثر من المواطن بعينه.
أما موضوع المديونية الشائك دائم الطرح، فقد نستطيع حلّه بجلّه أو معظمه بقرارٍ من الملك يشبه بعض قرارات الحكومة، بيْدَ أن هذا فيه كل المصلحة للبلاد، فهو في ظل المعطيات الحالية الأنسب والأنجع والأكثر نفعاً على المدى البعيد، ففيه على الأقل ضمان لعدم تصاعد التراكمات السنوية من المديونية والتي تزداد عاماً بعام.
البرلمان ومجلس الأعيان والوزراء هي المرحلة الأولية لبرنامج التقشّف الذي نحن الآن في صدد الحديث عنه، فقد تبيّن بالوجه الشرعي وعلى مدار العقود التي مضت منذ تأسيس البرلمان الأردني، عدم ممارسته الوظائف المناطة إليه وخاصة بأحلك اللحظات كالتي مررنا بها في الآونة الأخيرة. ما البرلمان في الأردن إلاّ الشكل الحضاري لمجتمع مدني ومكانة بين دول العالم المتّقدّم مؤطراً بمصالح شخصية للنواب من تحسين وضع اجتماعي ومادي وإنهاك لخزينة الدولة. لا أريد أن أفصّل في هذا الباب كثيراً عن الدور البرلماني المعطّل منذ وجوده، والذي أثبت فشله بالخط العريض وبشكلٍ تجاوز الوقاحة، والمقام لا يسمح بأكثر من تعريض. ففي بعض التصريحات المخجلة، لا بل الجارِحة والمهينة من بعض النواب بعد وقفة الأربعاء النقابية أمثال حابس الفايز عندما قال في مقابلة له بأن "المعتصمين كلهم مطلوبون للقضاء ويجب الكشف عن هوياتهم" فهل آلت المطالبات في الحق إلى جُرم وجنايات؟ ولم تختلف النائب مرام الحيصة عن زميلها كثيراً عندما صرّحت بمقالها الذي نشرته سرايا بعد الوقفة بيوم، فقالت: "نسبة كبيرة من المتظاهرين هم ممن لا تشملهم ضريبة الدخل. حتى الذين تشملهم يفتقرون للقراءة الصحيحة والمعلومات الدقيقة بالقانون" هذا مع الاسترسال في الإطراء لرئيس الحكومة الجديدة عمر الرزاز، بدل حمل أمانة ناخبيها بعمل مُثابر وحازِم.
علّ النائب الحيصة لم تعلم أن الوقفة النقابية يوم الأربعاء كان على رأسها رؤساء النقابات الأردنية كلها، فهل رؤساء النقابات وموظفيهم من مهندسين وأطباء وصيادلة ومدراء ومسؤولين لم يتمكّنوا من قراءة القانون قراءة صحيحة؟ ألم تعلم الحيصة بأن المعتصمين لم يكن من بينهم أطفال وتعديل القانون الضربيبي يشمل مَن هو فوق الثامنة عشر؟ وقد لا تعلم النائب بأن الأردن من أكثر الدول عربياً من حيث التحصيل الأكاديمي! هذا يعني بالضرورة أن أغلبية المتظاهرين في الوقفة كانوا نقابيين وأكاديميين ومثقّفين أهلاً لفهم نصّ بدا أن الحيصة لم تفهمه.
كلنا يؤمن إيماناً صخرياً، حتى لو أخفينا الحقيقة على أنفسنا تارة، بأن جلّ النواب، لا بل كلهم يحمل وِزراً لا يتجاوز مصلحته الشخصية، فيما تبيّن في الأزمة الأخيرة بالدليل القاِطع في رد قرار الضريبة للتعديل بدل رفضه، فلم ينادِ أحد بالرفض أو الشجب أو الاستنكار أو حتى حفظ ماء الوجه بالإستقالة. مثلهم كمثل كِواء الورَم بدل الاستئصال.
لو تمعنّا لحظة نواب البرلمان لوجدنا السواد الأعظم منهم ضبّاط جيش متقاعدين أو أكاديميين أثرياء، ولكن لن تجد مَن تمرّس العمل السياسي في أحد الأحزاب التي تؤهّله للوقوف تحت القبّة البرلمانية. ما هم إلاّ أشخاص قدّمتهم العشيرة لمكانتهم الاجتماعية، لا لتمرّسهم في شؤون البلاد، فضمنت لهم الوجود والدعم الإنتخابي. صار وجودهم عالة على ميزانية الدولة والوطن، وظيفتهم الوحيدة القيام بأعمال اجتماعية كأحد موظفي وزارة الأشغال العامة من توظيف مراسلين وعمال وأكاديميين عاطلين عن العمل.
نحن الآن بأمس الحاجة إلى ساسة لإدارة شؤون الدولة بصدق وأمانة، لا لعسكريين في أواخر أعمارهم، لم يعرفوا البّتة غير السلاح والتدريبات الميدانية، فكيف بهم اليوم بعد أن تجاوزوا الخمسين والستين عاماً أن يمارسوا عملاً سياسياً يرفع من شأن دولة أو يخسف بها في الحضيض، فقدراتهم لا تتجاوز الإبتدائية في العمل السياسي، أو أنهم أكاديميون أثرياء لم تأّهلهم إمكانياتهم الدبلوماسية، لا بل ثروتهم والمكانة الإجتماعية.
في ظل هذا الوصف الوظيفي للنائب، فاقِد العمل السياسي الحقيقي، لا بل دمية خشبية تحرّكها الحكومة مقابل مصالح فردية تعلو مصلحة المجتمع الفقير جلّه. فلو أن جلالة الملك اعتمد وجود البرلمانيين كنواب فخريين - كونهم لا يمثلون الشارع الأردني - تماماً ككثير من القناصل غير الأردنيين المنتشرين في العالم – كالقنصل الأردني الفخري الألماني "Claus Gielisch" الذي ورث منصبه عن أبيه في مدينة دوسلدورف الألمانية، فقط لأن خالته هي زوجة الأمير رعد بن زيد "Margaretha" ماجدة الرعد، من أصل سويدي، فالقنصلية في بيتهم منذ ما يُقارب السبعة وعشرين عاماً، هذا رغم تجاوز والده القنصل السابق "Carl Gielisch" على الشعب الأردني والفلسسطيني، إبّان حقبته القنصلية، في لقاء صحفي في جريدة "Spiegel Der" الألمانية تحت عنوان "العربي لا تستطيع الوثوق به" في 18.09.1972، هذا بدل رعاية الجالية أو الكفّ أضعف الإيمان – من دون تقاضي رواتب تترواح بين 3500 وتصل إلى 9 آلاف دينار بين وزير وبرلماني، لاستطاعت تغطية بعض المديونية بوقتٍ أسرع وأكثر أمناً من تطاول القرارات الضريبية الفاشلة على المواطن، التي لا يُطبّق منها سوى العائِد بالفائدة لأصحاب القرار وتعديل بعض من انهيار الميزانية. وبهذا تمنح الحكومة النواب جوازات سفر دبلوماسية ومكانة اجتماعية بين الناس، من دون أن يتسبّبوا بعجز في الميزانية جرّاء رواتبهم ومخصّصات تعادل الرواتب وحيناً أكثر، هذا عدا استخدام النفوذ في بيع وشراء وكراء وسرقات ومشاركة الدولة بقضايا الفساد.
لا نريد أن تكون إقالة الملقي امتصاصاً لغضب الشارع فحسب، بل يجب أن تكون التبعة المنصفة الحكيمة إلغاء التعديل الضريبي وليس وقفهِ لاحتواء الشعب وتنفيذهِ في موعد آجل. يجب على الحكومة الحالية ومعها جلالة الملك تقدير الوضع الراهن والتفاعُل مع الشعب والنقابات والمؤسّسات المدنية حتى لا يستطيع الحاقدون استثمار الغضب وتصعيده ليأخذ منحنى – لا سمح الله – لا رجعة فيه.
كل عام ونحن إلى الكرامة والحق أقرب، كل عام وأنتم بخير.