بين ذكرى نكبة ونكسة العرب.. تم اغتيال رزان النجار

لسبعين سنة ننتقل من نكبةٍ إلى نكسة، فما بين النكبة والنكسة، كان أقل من عقدين من الزمان، (15 أيار/ مايو 1948) إلى (5 حزيران/ يونيو 1967)، أكثر من سبعين نكبة ونكسة أصابت الشعب الفلسطيني وكفاحه وأرضه.. لكنه مازال قوياً لأنه شعب يؤمن أنه الشعب الذي يستشهد أو ينتصر ويُقيم دولته الحرّة الأبيّة وعاصمتها القدس.

رزان النجار الشاهدة على طغيان آلة القتل الإسرائيلية وعلى إجرام العدو الإسرائيلي

لكن هناك نكبات ثلاث أصابت الفلسطينيين في خاصرتهم هي النكبة والنكسة وخيبة الأمل في أمّة نائمة، النكبة والنكسة نفّذهما الاحتلال الصهيوني لأهدافٍ صهيونيةٍ احتلاليةٍ كبيرةٍ في فلسطين، أولها الاستيلاء على الأرض الفلسطينية لتمليكها للمُهاجرين اليهود الذين قدموا من كافة أنحاء العالم، والهدف الثاني بناء وطن يهودي لهم على تراب الأرض الفلسطينية، وعلى خلفيّة هذه الأهداف وإجراءاتها تم تهجير ما يُقارب المليون نسمة من الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم ومزارعهم ومصانعهم بقوّة البارود والنار.

الحقيقة أن النكبة لم تكن بمُجمل أحداثها في العام 1947 فقط وإنما نكبة الشعب الفلسطيني بدأت عندما داست أقدام اليهود أرض فلسطين مرتحلين باحثين عن وطن، وتوالت هجرتهم بعد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في بال في سويسرا والذي أسّس الحركة الصهيونية وكرّس الهجرة إلى فلسطين وشَرَعَ في جمْع التبرّعات للحركة الصهيونية، حينها تدفّق الآلاف من المُهاجرين الصهاينة من كافة أنحاء العالم إلى فلسطين، وكان للاستعمار البريطاني على فلسطين ومصر والشام أثراً كبيراً في تسهيل هجرة اليهود وقطْع التواصل بين البلاد التي احتلوها ببعضها البعض، حتى يصل المهاجرون اليهود إلى فلسطين من دون عوائق، وما بين النكبة والنكسة فارِق زمنى بسيط يُقدّر بعقدين من الزمان تخلّلته محاولات صهيونية تحالفية كبيرة للاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية.

أما خيبة الأمل التي قد لا يعرفها أحد بهذه الصفة وهذا التوصيف الذي كان أجدادنا الفلسطينيون ينعتون به أي شخص عندما يخيب ويخفق ويتخلّى عن الآخرين، حيث الوكسة  والتي هي اصطلاحاً العمل أدنى من المطلوب من دون الفريق أو الشخص أو المجموع والوقوع في خطأ مصيري قد يشتّت المجموع ويُعيق إجراءاتهم التي تهدف لتحقيق أهداف تعود للمصلحة العامة، والوكسة التي أصابت الشعب الفلسطيني بعد أربعة عقود تقريباً من النكسة هي الانقسام الأسود الذي فعل ما فعل فينا نحن الفلسطينيين وقسّم بلادنا ومجتمعنا وثوابتنا وحتى مقاومتنا التى كنا نقول إنها لن تتوقّف مهما بلغت حال التزاحم على الحُكم من مبلغ.

لذا فإن إسرائيل تعترض على أيّ اتفاق فلسطيني يُفضي إلى حال حُكم واحدة على أساس الثوابت الوطنية وأساس المشروع الوطني الفلسطيني، وتعترض أن يتّفق الفلسطينيون، أبيضهم وأسودهم، شيخهم وعالمهم، رئيسهم ومرؤوسيهم ، فصائلهم وأحزابهم وحركاتهم جميعهم تحت لواء واحد هو منظمة التحرير الفلسطينية، هذا الاعتراض جاء بالطبع لأن الفلسطينيين سيقوى شأنهم إن توحّدوا وبالتالى يتفرّغ الفلسطينيون لمُناكفة إسرائيل ومقاومتها بدلاً من الإنشغال في مُناكفة بعضهم البعض ، وهذا يُعيق برامج إسرائيل الاستيطانية التوسّعية التهويدية، ويحدّ من سرعتها ويفضح بالطبع ادّعاءها برغبتها في السلام وتحقيق هرب من عدوان يتبعه عدوان على فلسطين؟.

بين ذكرى النكبة والنكسة، جاءت البراءة حين تراها في الصف في مسيرات العودة مقبلةً غير مُدبرة وعيونها وقلبها يخفق شوقاً إلى فلسطين ، فهي الشاهدة على طغيان آلة القتل الإسرائيلية وعلى إجرام العدو الإسرائيلي ضد أبناء شعبنا الفلسطيني، ولم يشفع لها رداء "ملائكة الرحمة" الأبيض أمام وحشيّة احتلال اغتصب أرضها وقتلَ شعبها، وذنبها الوحيد أنها خرجت متطوّعة تطبّب جراح أبناء مدينتها الذين أصابهم رصاص الغدر الإسرائيلي، وبرصاصة واحدة غادِرة في صدرها اغتالتها إسرائيل ضاربة عرض الحائط قوانين المجتمع الدولي وحقوق الإنسان، وذنبها الوحيد أنها تمارس إنسانيّتها في أرض لم ترحمها آلة القتل الإسرائيلية من قتلٍ وحصارٍ وتجويع.

إنها ابنة قطاع غزّة الشهيدة "رزان النجار" ذات الإحدى والعشرين ربيعاً والتي تطوّعت في هيئة الإغاثة الطبية في غزّة، ومع بدء مسيرات العودة في غزّة حملت إنسانيّتها وواجبها الوطني ورابطت في الميدان شرق محافظة خانيونس مُعرّضة حياتها للخطر، وكل ذلك يهون بالنسبة إليها فداء لفلسطين، وقبل أن تتحرّك المُسعِفة لتلتحق بطواقم الإسعاف التي تتمركز في النقاط الطبية في مخيمات العودة شرق قطاع غزّة، وفي خانيونس تحديداً، كتبت على صفحتها الشخصية:

"راجع ومش متراجع.. وارشقني برصاصك ومش خايف.. وأنا كل يوم هكون بأرضي وبأهلي حاشد.. مستمرون.. جمعة من غزّة إلى حيفا".

بالقوّة قابلَ جنود القنّاصة الإسرائيليين رقّة "رزان النجار"، حيث توجّهت قرب الحدود الشرقية لخانيونس جنوب قطاع غزّة لإسعاف أحد الجرحى، ولم يشفع لها بأنها قامت برفع يديها إلى الأعلى، بالإضافة إلى أنها كانت ترتدي ملابس طُبِعت عليها شارة الإسعاف وأنها تتبع لجمعية الهلال الأحمر، أحد القنّاصة لم يأبه لتلك الإشارات، فباغتها برصاصةٍ قاتِلةٍ دخلت في صدرها وخرجت من ظهرها، وملأت دماؤها تلك الملابس، في جريمةٍ من أبشع الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية.

نعم مازال مسلسل الإجرام الإسرائيلي مستمراً ضد أبناء شعبنا الفلسطيني سواء أكان قتل المدنين بدمٍ باردٍ أو تدمير القرى والبيوت وإبعاد أبناء شعبنا عن مدنهم، وتدمير المستشفيات واستهداف سيارات الإسعا ، وحتى دور العبادة لم تسلم من إجرامهم، وقد شاهد العالم أجمع بربرية جنود الاحتلال في استهداف الأطفال في حضن ذويهم كالشهيد محمّد الدرّة وغيرها من الجرائم التي لا تعدّ ولا تُحصى والتي تُصنّف كجرائم ضد الإنسانية كما يُعرّفها القانون.

رحلت رزان النجار، لكن الفلسطينيين لن ينسوها، فلطالما كانت المُسعِفة الرائعة، والتي استطاعت أن تساعد الجرحى والمُصابين.. سيظل الفلسطينيون يتذكّرون مواقفها الرائعة.. رحلت رزان المُسعِفة، التي لم تخف من رصاص الجنود، الذين كانوا يطلقون على مسيرات العودة وابلاً من الرصاص.. سقطت شهيدة بفعل رصاص انهمر على المتظاهرين الفلسطينيين السلميين.. رحلت رزان النجار، لكنها ستبقى تلك الفتاة الشجاعة.

تبقى الحقيقة الواقعة هي أن هذه الجريمة باغتيال رزان تُعدّ سلسلة من الجرائم التي لا تسقط بالتقادُم، وسيأتي يوم يُحاكَم فيه مجرمو الحرب من إسرائيليين وغيرهم ، فالشهيدة رزان ستبقى خالدة في قلوبنا جميعاً وذكرى تأبى النسيان، فهي أيقونة مسيرات العودة وسيبقى إسمها رمزاً لفلسطين كل فلسطين. فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، كانت تُسمّى فلسطين، وصارت تُسمّى فلسطين. رغم ذكرى نكبة ونكسة وواقع من خيبة أمل.