من محطّات المقاومة العراقية

امتلاك العراق قوّة كالحشد غيّر المُعادلات الاقليمية، مكسباً لبغداد فبات من غير الممكن التفريط بهكذا قوّة، على هذا الأساس أنجز قانون هيئة الحشد الشعبي، ليصبح الحشد في ما بعد هيئة تابعة للدولة وتعمل وفق قانون مُشرّع من مجلس النواب، ويتمتّع بكافة الحقوق والامتيازات التي تُمنَح للقوات العراقية المسلّحة، بما في ذلك الاستعراضات العسكرية.

دخول فصائل المقاومة العراقية إلى الساحة ساعد على تغيير المُعادلات في بعض المناطق السورية

منذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 المُتّخذ في 22أيار / مايو من العام 2003، الذي اعتبر القوات الأميركية والبريطانية قوّتين قائمتين على الاحتلال في العراق، أخذت تتصاعد الضربات الموجّهة ضد القوات الأميركية بشكلٍ مُلفت من قِبَل العراقيين في ممارسة طبيعية لأيّ شعب يعاني الاحتلال، في السنوات الأولى اختلطت الأوراق على الكثير بين المقاومة التي تستهدف الاحتلال ومجموعات إرهابية تستهدف وحدة نسيج المجتمع عبر عمليات القتل الطائفي التي كانت تدّعي المقاومة أيضاً.

لكن بالتزامُن مع خطّة فرض القانون التي شنّتها الحكومة العراقية للتخلّص من خلايا تنظيم القاعدة وبعض الحركات الأخرى مطلع عام 2007، حيث قلّ بعد ذلك نشاط الحركات الإرهابية، وما لم يكن بحسابات واشنطن أن تلك الحال ساعدت على إظهار دور المقاومة العراقية الحقيقية في استهدافاتها المُتواصلة للقوات الأميركية.

الآلة العسكرية الأميركية وقفت عاجِزة أمام مصائد المقاومة في بغداد ومحافظات أخرى حتى أخذت الضربات تكون أكثر دقّة وتُحدِث خسائر كبيرة في صفوف قوات الاحتلال، ولم يقتصر شكل الاستهداف على زرع العبوات الناسِفة بل تعداه ليصل أن تدكّ راجمات المقاومة قواعد القوات الأميركية، وكانت حادثة اختراق الطائرة المُسيّرة التي كانت توفّر الحماية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عبر التصوير جوّاً خلال زيارته إلى العراق عام 2008 من قِبَل كتائب حزب الله، ثم إعلان الكتائب أن أوباما كان بمرمى نيرانها لكن وجود عراقيين أبرياء في المكان ألغى العملية، كانت تلك الحادثة نقطة تحوّل في عمل حركات المقاومة وحرّكت الرأي العام في الولايات المتحدة حول مصير الجنود الأميركان في العراق.

فعدد قتلى الجيش الأميركي لم يستقر أو ينخفض حتى وعت إدارة البيت الأبيض حجم المُستنقع الكبير التي تورّطت فيه في العراق، حتى بات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يُفكّر في تنفيذ وعوده الانتخابية بسحب جيش بلاده من العراق في محاولة لتدارُك الأحداث والخروج بأقل الخسائر، وما يحفظ لأميركا هيمنتها على جزء من القرار العراقي، توصّلت واشنطن إلى اتفاق ثنائي مع بغداد عام 2008، تنسحب بموجبه القوات الأميركية من المدن العراقية في مدّة لاتتجاوز 30 حزيران من العام 2009 على أن ينسحب آخر جندي أميركي في ديسمبر عام 2011 ، وفعلاً سارت الاتفاقية وتم جلاء القوات الأميركية، هنا المقاومة العراقية شعرت بنشوة الانتصار الكبير بعد انكسار أقوى جيوش العالم أمام فعلها وكان الانسحاب بطعم الهزيمة بالنسبة إلى الإدارة الأميركية.

وبعد خروج القوات الأميركية عام 2011، تواترت الأحداث عند الجارة سوريا، وأخذت الأعمال المسلّحة تتصاعد وتهدّد وحدة التراب السوري، وكان سقوط النظام في دمشق يمثّل كابوساً للعراق لأن بديل الدولة السورية سيكون مجاميع مسلّحة متطرّفة ومنها تنصف على لائحة الإرهاب العالمي "جبهة النصرة وداعش لاحقاً"، وكانت النتيجة المؤكّدة لو سيطرت تلك الجماعات على سوريا فستغذّي النَفَس الطائفي داخل العراق وتعمل على إثارة حرب طائفية شعواء، بعد ذلك حدّدت فصائل المقاومة العراقية خياراتها وذهب عدد من الفصائل إلى سوريا دفاعاً عن المُقدّسات التي باتت مُهدّدة من قِبَل المسلّحين، ثم الانتشار على أنحاء مختلفة من سوريا مع الجيش السوري دفاعاً عن كيان الدولة، وشكّل دخول المقاومة اللبنانية والدعم الإيراني دافعاً لفصائل المقاومة في أن تحقّق الانتصارات.

دخول فصائل المقاومة العراقية إلى الساحة ساعد على تغيير المُعادلات في بعض المناطق السورية، لكن الوجود العراقي لم يستطع حصْر المسلّحين ضمن الحد السوري، فسار المُخطّط له اقليمياً واحتلت داعش الموصل في 9 حزيران عام 2014، وبعد ذلك تساقط الكثير من المدن والبلدات تباعاً كأحجار الدومينو، وما أوقف ذلك السيل الداعشي حينها، فتوى الجهاد الكفائي الشهيرة التي أطلقها المرجع الأعلى في النجف السيّد علي السيستاني في 2014، عندما كانت داعش تسيطر على الموصل وصلاح الدين والأنبار وأجزاء من ديالى وتقف على أعتاب مطار بغداد الدولي، تلك الفتوى شكّلت دافعاً كبيراً لفصائل المقاومة العراقية في أن تتّحد تحت مُسمّى الحشد الشعبي العراقي، وكانت أولى انتصاراته في جرف الصخر التي سُمّيت بعد تحريرها بـ"جرف النصر" وتقع شمال بابل، وتُعتَبر منطقة تهدّد أمن المحافظات الوسطى والجنوبية بالإضافة إلى جنوب العاصمة، ثم كسْر الحصار الداعشي عن آمرلي إلى الشمال من بغداد، وهكذا بدأ الحشد الشعبي معاركه مع الإرهاب بدعمٍ شعبي واسع.

امتلاك العراق قوّة كالحشد غيّر المُعادلات الاقليمية، مكسباً لبغداد فبات من غير الممكن التفريط بهكذا قوّة، على هذا الأساس أنجز قانون هيئة الحشد الشعبي، ليصبح الحشد في ما بعد هيئة تابعة للدولة وتعمل وفق قانون مُشرّع من مجلس النواب، ويتمتّع بكافة الحقوق والامتيازات التي تُمنَح للقوات العراقية المسلّحة، بما في ذلك الاستعراضات العسكرية.

فصائل الحشد الشعبي ترفض الانصياع للتعامل مع الولايات المتحدة، وبعضها يؤكّد أنه جزء من محور المقاومة في المنطقة، وبعد الانتهاء من داعش عسكرياً في العراق، بقي الحشد مراقباً لتحرّكات أميركا في العراق وعياً منه أن أميركا تبحث عن وجود عسكري طويل الأمد في العراق في المرحلة المقبلة، وما زالت كتائب حزب الله وحركة عصائب أهل الحق وحركة النجباء وفصائل عراقية أخرى تُطلق تهديداتها باستهداف القوات الأميركية على اعتبار أنها قوّة احتلال للأراضي العراقية، وجاءت مطالبة البرلمان العراقي الأخيرة للحكومة العراقية بجدول لانسحاب القوات الأجنبية من البلاد بعد هزيمة الإرهاب، دافعاً كبيراً للفصائل.

وبقيت لفترات فصائل المقاومة العراقية تعمل ضمن مناطق مُعيّنة من العراق، لكن بعد كارثة 2014، أصبحت تلك الفصائل تنتشر على عموم الأرضي العراقية باستثناء اقليم كردستان، بل ويستعدّ بعضها للدخول في المُعترك الانتخابي المقبل مع تحفّظ بعضها الآخر.

الواضح من تصريحات قيادات بارزة في المقاومة العراقية، أن الأخيرة سوف لن تكون بمعزل عن أيّ تهديد إسرائيلي-أميركي للمقاومة اللبنانية، ولا تبتعد بوصلتها عن فلسطين باعتبارها القضية المركزية للعرب، كذلك لاتجد فصائل بارزة في الحشد الشعبي حَرَجاً بإظهار قوّة علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي دعمت قوى الحشد بالسلاح والخطط العسكرية في مرحلة مُقاتلة داعش، وما بات يُميّز المقاومة العراقية هو ما تتميّز به المقاومة اللبنانية، أي أنها ليست حكراً على طائفة مُعيّنة أو مشروع لضرب سيادة الدول بل للحفاظ على كيانها وضمان مستقبل أفضل لها.