الأمن المائي.. هل يلتفت لبنان إلى الأزمة قبل وقوعها؟
السيناريو الكارثيّ ليس وشيكاً بالضرورة، والحلول موجودة لكنها تحتاج إلى قرار، فهل تستجيب السلطات قبل فوات الأوان؟
تربط الدراسات الرصينة بين تغيّر المناخ ونشوء تحديات أمنية وعدم استقرار، سياسياً واجتماعياً. لم يعد تغيّر المناخ قضية استشرافية تقع ضمن حدود التوقّعات والمستقبل. بتنا نشاهد آثاره ونُعايشها، على شكل فيضانات وجفاف ونُدرة مياه واحتراق غابات في أكثر من منطقة حول العالم، من ضمنها منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط.
يُتوقَّع أن يتفاقم هذا الوضع أكثر على الصعيد العالمي في السنوات والعقود المقبلة، ويُرخي بظلاله على المنطقة العربية وجوارها، الأمر الذي من شأنه أن يُوَلّد تحديات جديدة وأزمات، عنوانها الأمن المائي. هذا ما تحسَّبت له "إسرائيل"، التي قاربت مسألة المياه منذ نشوئها باعتبارها مسألة حيوية وبالغة الأهمية. وهي اليوم تسوّق نفسها على أنها رائدة في مجالات تحلية المياه والريّ بالتنقيط وتدوير المياه وإدارتها، على نحو يخدم مشاريعها التطبيعية، وما يُعرَف بـ"دبلوماسية المياه".
كشفت مُسَوّدة تقييم وضعتها الأمم المتحدة أن منطقة المتوسط تُعَدّ "مركز التغيّر المناخي"، إذ ستشهد موجاتِ حَرٍّ غيرَ مسبوقة، وجفافاً وحرائقَ ناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة. وتتوقّع المُسَوّدة أن ترتفع درجات الحرارة في أنحاء المتوسط أسرعَ من المعدّل العالمي في العقود المقبلة، وهو ما يهدّد قطاعات الزراعة والثروة السمكية والسياحة.
وأعلنت وكالة أميركية معنية بمراقبة الغلاف الجوي والمحيطات، أن تموز/يوليو الماضي كان الشهر الأشد حرارة في التاريخ منذ بدء نظام تسجيل درجات الحرارة في العالم. ورجّح تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ، أن يؤدي التغير المناخي إلى تفاقم المشاكل المتعلقة بالمياه، مثل الفيضانات والجفاف الذي يؤدي إلى اتساع رقعة الحرائق.
مياه آسنة فوق الحصار
في بلد مثل لبنان، سوف يكون هذا الأمر ضاغطاً وقابلاً للاستثمار والابتزاز، على صعيد الأمن الاجتماعي، نظراً إلى وطأة الأزمة التي يعانيها البلد، اقتصادياً ومعيشياً، في ظل انهيار الدولة والحصار الأميركي، وهي أزمة مرشّحة للاستمرار في السنوات المقبلة.
يرى بعض الخبراء أن الأمن المائي في لبنان معرَّض للمخاطر في المدى المنظور، وقد يدخل مرحلة حرجة إن لم يَجرِ تدارك الأزمة منذ الآن، وما لم تتمَّ مقاربة الملف المائي كأولوية. خلاف ذلك سيضع البلد أمام خطر التعطيش بعد أن داهمه خطر الجوع ونقص المستلزمات الأساسية وانهيار القطاعات الحيوية، علماً بأن المسألة لا ترتبط فقط بتأمين مياه الشَّفَة، بل أيضاً بخطط الإنتاج الزراعي، والتي تستلزم المحافظة على جَودة المياه وعلى المصادر الجوفية، والحؤول دون ارتفاع نسبة ملوحتها.
هذا السيناريو الكارثي ليس وشيكاً بالضرورة، لكنه يبقى ماثلاً في المستقبل، وقد ينكسر الحصار قبل بلوغ هذه النقطة، بينما يجادل بعض الخبراء في أن هناك مبالغة بشأن مسألة نُدرة المياه مع وجود بدائل تقنية، مثل تحلية مياه البحر، وإن كانت هذه التقنيات باهظة التكاليف. عدا عن ذلك، تتعلق المسألة، إلى حدّ كبير، بكمية المتساقطات والثلوج في السنوات المقبلة، والتي يصعب التنبُّؤ بها بصورة حاسمة منذ الآن.
في حال انخفضت نسبة المتساقطات، كما يتوقع البعض، فإن ذلك سيقود إلى زيادة السَّحْب من المياه الجوفية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة تملُّح المياه العذبة في المناطق الساحلية القريبة من البحر، فتصبح غير قابلة للاستهلاك أو الري.
المفارقة أن لبنان لا يصنَّف بين الدول الفقيرة في المياه مقارنة بدول أخرى في المنطقة. لكن، في ظل الفساد والمحسوبيات وغياب الحكم الرشيد، تذهب أغلبية الثروة المائية هدراً في البحر، أو يتمّ تلويثها بمخلَّفات المصانع والصَّرْف الصحي والنفايات الصُّلبة، بالإضافة إلى الكيميائيات الزراعية والمبيدات غير القابلة للتحلُّل. هذا ما جرى في أطول الأنهار اللبنانية، نهر الليطاني، الذي تحوّل مجراه إلى ما يشبه الصَّرف الصحي.
الحلول موجودة، وتمّ إقرار عدد من المخطَّطات، لكن لم يَجرِ وضعها موضعَ التنفيذ بسبب نقص التمويل، وأحياناً نقص التشريعات والمراسيم والسياسات الإجرائية اللازمة. وهو ما عجزت الدولة عن القيام به قبل الانهيار. بالنتيجة، لا يمكن البحث عن أيّ استراتيجية للأمن الغذائي، أو الأمن المائي، أو الإنتاج الزراعي، بينما مياه الليطاني وبحيرة القرعون ملوَّثة بالصَّرف الصحي ومخلَّفات المصانع الكيميائية.
منتصفَ العام الماضي، وصلت إلى الحكومة اللبنانية رسائلُ تؤكد فيها شركات صينية ضخمة استعدادها للاستثمار في مشاريع بنى تحتية في لبنان، بما في ذلك إعادة تنظيف نهر الليطاني وتأهيله، فهل تستجيب السلطات قبل فوات الأوان؟