هل تُماطِل أربيل في التفاوض مع بغداد؟
العلاقة بين المركز والإقليم عادت إلى المربّع الأول وتحقّق ما يؤمِن به رئيس إقليم المستقبل على أثر استفتاء الانفصال الكردي "قلب ضعيف (بغداد) وأطراف قوية (الإقليم)"، والخطورة هنا تكمُن في تكريس مبدأ المُحاصَصة السياسية، ويبقى الإقليم بحال لاتوجد إلا في العراق وهي أعلى من الفدرالية وأقل من الكونفدرالية، وسيعود شكل العلاقة إلى (ما لكَ، لي ولكَ.. وما لي، لي وحدي).
بعد التغيير عام 2003 والطرف الكردي يتمثّل ببيضة القبّان بين الكُتَل والتحالُفات السياسية العراقية في أغلب المُعادلات الداخلية، فحتى بعد انفراط عهد "التحالف الوطني الكردستاني" عام 2009، بقيَ النواب الكرد يتّحدون في القضايا التي تمسُّ مصالِح كردستان، ذلك التحالف الذي جَمَعَ القوى السياسية الكردية في عام 2005 حصلَ على الكثيرِ من المُكتسبات، وبقيت له حتى بعد حلّه، واستمرت القيادة الكردية في الحصول على المكاسب، لأن عدد النواب الكرد القليل في البرلمان الاتحادي "53 نائباً في الدورة الحالية من أصل 328 نائباَ" حوّلهم إلى الطرف الحاسِم في اتّخاذ القرارات النيابية التي تخضع للمُساجلات والخلافات كتشكيل الحكومات، واستجواب الوزراء والتصويت على القوانين التي تُعَرقلُ نتيجة المُناكفات السياسية، أبرز مثال على ذلك هو "اجتماع أربيل" الذي دعا إليه رئيس الإقليم السابق مسعود برزاني وتشكّلت بموجبه حكومة 2010، أربيل منذ ذلك الحين وقبله حصلت على نسبة 17% من الموازنة ومقاعد أكثر في التمثيل الدبلوماسي والدرجات الوظيفية، والدرجات الخاصة في الوزرات السيادية والمهمة وحتى في المناصب الأمنية الحسّاسة، هذا ما كُشف من قِبَل بعض من كانوا في ذلك الاجتماع ولوّح به رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي عندما قال قبل فترة، إن نسبة 17% حصلت عليها أربيل نتيجة "مُجاملات سياسية".
الحال تبدّلت بعد دخول القوات العراقية الاتحادية إلى كركوك في عملية "فرض الدستور" بتاريخ 15 أكتوبر/2017، التي استعادت بها بغداد السيطرة الكاملة على كركوك الغنّية بالنفط، ورجوع قوات البيشمركة التابعة للإقليم إلى داخل الخط الأزرق "حدود إقليم كردستان المنصوص عليها في الدستور العراقي"، فبعد ذلك أربيل خسرت ما جنته سياسياً خلال الأعوام التي سبقت، وزادت نقمة الأحزاب الكردية المُعارِضة على الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الاقليم المُستقيل مسعود برزاني، لأنه هو مَن قاد الكرد إلى الاستفتاء على انفصال الإقليم عن العراق، بعد أن أحرج الكثير منهم ولم يستمع إلى نصائح الأحزاب الكبرى التي طالبت بتأجيل فكرة إعلان حلم "الدولة الكردية"، وحينها لم يكن في العَلَن أيّ مؤيِّد سوى إسرائيل التي كانت أول المُتخلّين عن برزاني بعد فشل الانفصال.
بعد ذلك لم يبق سوى الحوار الوطني سبيلاً لحلحلة المشاكل بين الطرفين وفق بنود دستور البلاد التي حدّدت شكل العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم، واشترطت بغداد رفع الحظر عن مطاريّ أربيل والسليمانية وإرسال مرتبات الموظّفين في كردستان، شريطة أن يُسلِّم الإقليم عائداته النفطية إلى العاصمة الاتحادية لتسويقها عَبْرَ شركة "سومو" حصراً، وعادت الحكومة إلى بيانات الأمم المتحدة وفقاً للكثافة السكانية العراقية التي تؤكّد أن نسبة الإقليم من موازنة الدولة المالية تكون (12,67%)، وهكذا رفعت بغداد مشروع الموازنة إلى مجلس النواب وبقيت تُصرُّ على تطبيق الدستور بخصوص المنافذ البرية والجوية في الإقليم، أي باتت الكرة في معلب كردستان، فلا حل لدى بغداد سوى الدخول من هذه البوابة.
الكتل السياسية الكردية التي أصابها الانقسام والانشقاق لم تتّحد هذه المرة، لكن حكومة الإقليم التي يرأسها نجيرفان برزاني حفيد مؤسّس الحزب الديمقراطي الكردستاني ملّا مصطفى برزاني، ونائبه قوباد طالباني نجل الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، أخذت تُناوِر سياسياً وتُماطِل لإضاعة الوقت في سبيل خروج الإقليم بأقل الخسائر من محنته الحالية، فباتت تضغط على بغداد سياسياً لتسليم المرتبات من دون أن تقبل بتسليم النفط، وتارةً تدفع فرنسا وبعض الدول الأوروبية التي ترتبط بمصالح اقتصادية وأمنية مع أربيل، للضغط على بغداد في سبيل الحصول على حصّتها السابقة من الموازنة أي (17%)، وكان مُفاجئاً للكثير من العراقيين تصريح الرئيس الفرنسي الذي طالب به بغداد أن تدفع مُستحقات الإقليم من الموازنة، فبدت بغداد وكأنها تُعاقِب الإقليم وتُحاصره، وهذه النظرة التي تتكوّن دولياً ستكون عامِلاً ضاغِطاً أكثر من الوقت الحالي في المستقبل، وفي تارةٍ أخرى استخدم الطرف الكردي ورقة البنك الدولي بموافقة واشنطن، الذي اشترط على العراق تسليمه القروض بعد أن يعطي نسبة 16% إلى الإقليم من الموازنة ومستحقات قوات البيشمركة، حكومة برزاني ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما عمدت إلى إظهار العراق بمظهر وحشيّ يريد تجويع الشعب الكردي، حين قدّم الوفد الكردي ورقة احتجاجيّة ضد رئيس الحكومة حيدر العبادي في مؤتمر الكويت لإعادة إعمار العراق، بأنه يُجوِّع كرستان ويرفض إرسال مُستحقات الكرد.
وقبل ذلك في المُنتدى الاقتصادي العالمي، حيث اجتمع رئيس الوزراء حيدر العبادي برئيس حكومة الإقليم نجيرفان برزاني ونائبه قوباد طالباني لفتح حوارٍ جدّي يُنهي الأزمة، بعده أصدر المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء بياناً أكّد فيه أن كردستان وافقت على تسليم النفط إلى بغداد وستكون بغداد جاهزة لإرسال موازنة الإقليم المالية، لكن الجميع صُدِمَ بعد ذلك بتراجُع الإقليم ونفيه هذه المعلومات، لتعود الأجواء إلى ما كانت عليه.
فبات واضحاً سعي حكومة الإقليم إلى المُماطَلة في حل الإشكاليات العالِقة داخلياً، وتسعى إلى استمالة المجتمع الدولي عبر بوابة سياسة التجويع والحرب الاقتصادية من قِبَل بغداد على مُحافظات الإقليم، وعندما يوجّه الخطاب إلى الداخل الكردي فيكون ديماغوجياً (إقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم المُسبَقة في الهاجِس).
لماذا يسير الإقليم في هذا الطريق؟
هذه المُماطلة داخلياً والضغوطات خارجياً، والمُراهنة على إضاعة الوقت، تُتيح لكردستان ألا تخسر كثيراً وفق رؤية السلطة الكردية، على اعتبار أن الإنتخابات بعدها يجب أن تسود حالة توافقية بين جميع الكتل الكبيرة للخروج باتفاق حول دعم وتأكيد مرشّح الكتلة الأكبر، ولأن العراق يحكمه التوافق ولايمكن أن تُشكَّل حكومة في غياب كردي أو من أي طرف آخر، فلا تُعطي كردستان الموافقة على رئيس الحكومة المقبلة إلا إذا أعطى هو تعهّدات في أن يُسلِّم نسبة 17% من الموازنة إلى الإقليم، ويفتح المطارات والحدود بإدارة كردية فقط من دون أن تأخذ الحكومة الاتحادية ديناراً واحداً من عائِدات هذه الموارد، ويبقى النفط محوراً للجدَل بين بغداد وأربيل حول عدد البراميل المُستخرَجة وحجم تهريب النفط والشركات التي تعمل داخل الإقليم، وقد تقتنع أربيل بعد ضغط لإحراجها ومن موقع الأقوى بتسليم نصف طاقتها الإنتاجية إلى بغداد أو ما دون ذلك حتى.
بهذا المشهد تكون العلاقة بين المركز والإقليم عادت إلى المربّع الأول وتحقّق ما يؤمِن به رئيس إقليم المستقبل على أثر استفتاء الانفصال الكردي "قلب ضعيف (بغداد) وأطراف قوية (الإقليم)"، والخطورة هنا تكمُن في تكريس مبدأ المُحاصَصة السياسية، ويبقى الإقليم بحال لاتوجد إلا في العراق وهي أعلى من الفدرالية وأقل من الكونفدرالية، وسيعود شكل العلاقة إلى (ما لكَ، لي ولكَ.. وما لي، لي وحدي).
صحيح أن رئيس الإقليم السابق مسعود برزاني استقال من منصبه لكن أثر خطواته وطريقة تفكيره واضِحة حتى الآن من خلف الستار، وليس لأحد الآن أن يُطيح بهكذا مؤامرات باستثناء الأطراف السياسية الكردية المُعارِضة التي ولِدت في 2009 أو في 2017.