بين عصر النفط وعصر الغاز: تحوّلات وآفاق

رغم ما يُسمّى ثورات الربيع العربي الملّونة التي هي بالواقع نوع من الفوضى لتهيئة المجتمعات لخرائط جديدة ووقائع حديثة، نجحت إلى حد ما في تغيير أنظمة واستبدالها في أخرى أكثر طواعية، إلا أنها اصطدمت في سوريا ومن هنا سرّ الحرب الكونية على سوريا عبر الجيل الرابع من الحروب وعبر مرتزقة الأرض وشذاذ الآفاق وخلط الدين بالسياسي، وضرب كل منظومة القِيَم القومية والإسلامية السمحة، وضرب حتى القوانين الدولية.

كل الشعارات السلمية والحيّة والديموقراطية وحقوق الإنسان هي مجرّد كلمه حق يُراد بها باطل

منذ نهاية سبعينات القرن الماضي شهدت إيران ثورة شعبية إسلامية غيّرت موقع ودور إيران من النقيض إلى النقيض، من دولة تدور في المحور الغربي والصهيوني إلى دولة ذات قرار مستقل، تدعو إلى وحدة العالم الإسلامي وإلى شرق أوسط لأهله، وإلى دولة مُعادية للغرب وللكيان الصهيوني.

لقد حاول هذا الغرب إجهاض هذه الثوره سواء بمحاوله التدخّل الفاشلة في صحراء لوط أو خلال سياسة "كيسنجر"  بالاحتواء المزدوج، وتشجيع العراق بشنّ الحرب بدعم خليجي وغربي  الهدف منه كان  إضعاف إيران  وإضعاف العراق أيضاً.

ومنذ انطلاق الثوره الخُمينية بدأنا نسمع مقولات "الخوف من تصدير الثورة"، وتارة الخوف من تشييع المنطقة  وطوراً آخر بالمدّ الفارسي أو الصفوي كرد فعل على الثورة،  وكلها شعارات تخفي الخوف من مدّ الثورة التي نصابت الكيان الصهيوني العداء بل واستبدلت سفارته بسفارة لفلسطين، وبدلاً من دعم الكيان الصهيوني زمن الشاه أصبح الدعم للشعب الفلسطيني ولحركة مقاومته ومنظمته.

 في هذه الآونة وبعد حرب عام 1973 بين مصر وسوريا من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى ارتفعت أسعار النفط (خاصة مع توقّف تدفّق النفط العراقي والإيراني) فراكمت الدول الخليجية أموالاً طائله تم استثمارها في مواجهة الثورة الخمينية والخوف من انتقال العدوى إلى شعوب المنطقة العربية  بثورة مضادة حملت إسم (الصحوة الإسلامية) وباتت الوهّابية اللاعِب الرئيس حيث انتشرت جماعات الدعوة والسلفية التي اتهمها نشر الحجاب و إقامة الشعائر الدينية أو وقف المشروبات الروحية والاهتمام ببناء المساجد وإطلاق اللحى وحفّ الشوارب والزيّ القصير للرجال والجلباب للنساء، وعدم الاختلاط بين الجنسين ولم يكن لديها مشروع لمواجهة الغرب الاستعماري بل باسم (الصحوة الإسلامية)، وضعت نفسها في خدمة الأجندة الامبريالية الأميركية والبريطانية تحت شعار محاربة الكفر والإلحاد، فجيّشت المجاهدين للحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي السابق ووفّرت لهم كل سبل الدعم والتحريض والتشجيع والدُعاء لهم على المنابر بالنصر، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، وإنجاز المهمة في هزيمته في أفغانستان تحوّل هؤلاء (المجاهدون) في نظر داعميهم ومشجّعيهم إلى (إرهابيين) تتم مضايقتهم ومحاصرتهم وحتى اعتقالهم أو الاحتفاظ بهم تحت السيطرة لمهمات أخرى يُحدّدها السيّد الأميركي.

منذ نهاية السبعينات القرن الماضي وحتى بداية القرن الواحد والعشرين سادت منظومة وقِيَم النفط والبترودولار حيث  ضرْب وضياع الهوية القومية، وضرب القِيَم الثورية لصالح مقولات غيبية وهلامية وإلى شحن المجتمعات وحقنها بالمذهبية والتركيز على المد والخطر الشيعي على أهل السنّة والجماعة بدلاً من التعاون والبحث عن قواسم مشتركة للوحدة، وتمت إثارة النعرات المذهبية والطائفية، وفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان كل هدفها تكفير الطرف الآخر وعدم الجواز بمباركة المسيحيين بأعيادهم، ومع تسعينات القرن الماضي ودخول عصر الفضاء المفتوح تم استحداث العديد من القنوات الدينية السنّية والشيعية  للتحريض على بعضهم البعض عِلماً أن مصدر هذه القنوات 1:هو عصر البترودولار الذي بدأ ينخر بالمجتمعات العربية والإسلامية، فضرب الدولة القومية في العراق بعد انتهاء حربها مع إيران وعدم إنجازه المهمة، وفي هذه الحقبة شهد العالم العربي انفصال جنوب السودان، وعدم مد يد العون للصومال المنكوب، وكذلك مُضايقة منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة فرض الأجندة الصهيوأميركية على المنطقة فكانت المبادرة العربية للسلام التي حملت إسم مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي حاولت إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، لولا إصرار الرئيس اللبناني إميل لحود على إضافة هذا البند، كما شهدت المنطقة حرباً على المقاومة اللبنانية بدعم أموال البترودولار، وكذلك شهدت حرباً على المقاومة الفلسطينية في غزّة في محاولة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد عبر الفوضى الخلاّقة ، وفي كل هذه المراحل لعبت منظومة عصر النفط كأداة في يد الغرب الاستعماري، عسى وعلّ أن تتم السيطرة المُطلقة على المنطقة، وأن ينتهي الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصِب وأن تمهّد لتعاون اقليمي مع الكيان الغاصِب، خاصة وأن الاكتشافات تشير إلى مخزون هائل من الغاز على شواطئ البحر المتوسّط، بالاضافة إلى الغاز القَطري الخليجي، وأن العالم يتجّه نحو الطاقة النظيفة أو البديلة، ما يعني بالضرورة منافسة الغاز الروسي الذي يتحكّم في أوروبا، ومحاولة زحزحة الروس عن عرش الغاز، ولوصل الحقبة النفطية بالحقبة الغازية ولحُسن نصر المنطقة والعالم تحت سيطرة القطب الأميركي الذي حاول من خلال مفهوم العولمة فرض نمط الحياه الأميركية على الاقتصاد والسياسة والإعلام والاجتماع والتربية وحتى منظومة القِيَم.

ورغم ما يُسمّى ثورات الربيع العربي الملّونة التي هي بالواقع نوع من الفوضى لتهيئة المجتمعات لخرائط جديدة ووقائع حديثة ، نجحت إلى حد ما في تغيير أنظمة واستبدالها في أخرى أكثر طواعية، إلا أنها اصطدمت في سوريا ومن هنا سرّ الحرب الكونية على سوريا عبر الجيل الرابع من الحروب وعبر مرتزقة الأرض وشذاذ الآفاق وخلط الدين بالسياسي، وضرب كل منظومة القِيَم القومية والإسلامية السمحة، وضرب حتى القوانين الدولية، والمفاهيم الدستورية ، وتشويه معنى الثورة، وتصوير الصراع الدولي كأنه حرب أهلية في الدول التي شاهدت الربيع الدموي، هذا الربيع الذي لم نره يزهر في أكثر الدول رجعية وتخلّفاً واستبداداً، المتماهية مع مشروع الشرق الأوسط الجديد، وإنما في معظم الجمهوريات التي تختزن الغاز على شواطئها وأراضيها ما يعني أن كل الشعارات السلمية والحيّة والديموقراطية وحقوق الإنسان هي مجرّد كلمه حق يُراد بها باطل.

لقد أدركت سوريا مبكراً مخططات الأعداء وخطورة زحف ثقافة الصحراء، فتصدّت للعدوان الكوني بإرادة لا تلين، واستنفرت الحلفاء والأصدقاء حيث أنهم في دائره الاستهداف أيضاً، وخاضت معاركها بكل عنفوان رغم كثرة المآسي والآلام والخسائر ولكن الحروب تتحدّد بنتائجها، وبات جلياً أن العالم يقف على مفترق طرق، فإن العولمة وسيادة القطب الواحد وسيطرة عصر البترودولار وضرْب القانون الدولي والقِيَم الإنسانية أو تعدّد الأقطاب وسيادة القانون الدولي واحترام حق الشعوب في الحرية والحفاظ على وحدتها، وأدركت الجمهورية الإسلامية الإيرانيه وكذلك روسيا الاتحادية والصين والعديد من الدول الحرة أنّ ما يجري على الأرض السورية هي معركتها أيضاً، فانخرطت بها بكل ثقلها لأن تبعات الحرب أخف عليها من الاستسلام لهذا العدوان الكوني الغادر، وهكذا بدأت تنقلب الموازين مبشّرةً بنهاية  القطبية الواحدة وأفول عصر النفط الأسود ومنظومته وقِيَم البترودولار لصالح الطاقة النظيفة بكل ما تحمل من معاني الحرية والاستقلال واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض منطق الغطرسة والهيمنة والاستغلال والنهب، وبدأت تتشكّل ملامح عصر توازن القوى كمقدّمة لعصر الردع لكل معتدٍ أثيم، وردع لثقافه الصحراء العنصرية والتصحّر الفكري والأيدولوجي والأخلاقي ، وبتنا أمام مرحلة جديدة تعلم موت مشروع الشرق الأوسط الجديد لصالح مشروع شرق أوسط لأهله التاريخيين، ولأصحاب الحقوق التاريخية، شرق أوسط قد يزيل ما مارسته الاتفاقات ( المستعملين ) قبل مائة عام وعصر يُعيد الألق لقِيَم المواطنة والأخوّة وقِيَم التسامح والشراكة بعيداً عن ملوّثات عصر النفط الأسود ومنظومة قِيَم الدولار الاستهلاكية والإجرامية.