بين مأزقي أنقرة والكرد

في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي والحرب القائمة وتداخل وتنوّع القوى التي تعمل في سوريا، تطفو عفرين على واجهة الحدث السياسي، فالفراغ العسكري الذي أحدثته هزيمة داعش في المنطقة، والتكلفة العالية للمواجهة الأميركية المباشرة مع إيران، والصعوبات الاستراتيجية لقيام كيان كردي في العراق، وجرس الخطر من مناورات قوات حزب الله في الجنوب السوري، والفيتو الروسي في مجلس الأمن لمنع محاسبة دمشق ضمن مسرحية الكيماوي، و لا التركية في وجه تكتل إقليمي مع الكرد، أوجب خلق أزمة تضمن تورّط جميع الأطراف المعارضة للسياسات الأميركية، وتمهّد لإغراقهم في معارك استنزاف طويلة الأمد تضمن هيمنة الوجود الأميركي لأطول فترة ممكنة في المنطقة، حيث أن المعادلات الأميركية تسعى لتكرار سيناريو التقسيم الذي يقرع أبواب الصراع الجيوسياسي في المنطقة لتعزيز مركزها خصوصاً بعد خسارتها في أوكرانيا، ولذا فإن المقامرة بالحال الكردية هي ورقة الضغط الأخيرة لإطالة أمد الأزمة السورية، والاستنزاف السياسي والعسكري والاقتصادي لها.

تطفو عفرين على واجهة الحدث السياسي في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي

إن قيام كيان كردي على شرق وادي الفرات سيضمن الضغط على المسار السياسي في دمشق، وفرض تنازلات سياسية تضمن حضور المعارضة كقوة مؤثرة ضمن مراكز القرار في السلطة، والتأثير على المفاوضات الجارية التي ستحدّد مستقبل سوريا، وإغلاق الممر بين دمشق وبغداد وطهران، كما تمنح ضمانات أمنية لتل أبيب بإبطاء التمدّد الإيراني عبر إشغال الحلفاء بمعارك بعيدة عن الجنوب السوري، أما اقتصادياً فستضمن موافقة الاتحاد الأوروبي لتمويل إعادة ترميم أو إعمار جزئي للمدن المدمّرة شرق الفرات بعيداً عن وجهة نظر النظام السوري، وبسبب سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على أكبر حقول النفط والغاز في الجفرة والصبيخان ومنشأة الكونيكو والرميلان والعمر فيمكنها الضغط على دمشق لرغبتها باستعادة السيطرة على مواردها النفطية، وكانت القوات الأميركية قد نفّذت عملية إنزال في حقل العمر النفطي لبناء قاعدة عسكرية دائمة، تعزّز سيطرتها على الريف الشرقي للفرات حيث أن المنطقة المحيطة بالحقل تعوم على بحر من النفط حسب ما تحدّث خبراء كنديون من شركة شل. 

ولأن أنقرة كانت تتحرّك خارج السرب الأميركي لمطالبتها بفتح الله غولن المتهم بمحاولة الانقلاب الفاشلة، وهناك توتّر يطفو على الأجواء بسبب موقف ترامب من القدس، فقد اختارت الإدارة الأميركية تحريك بيدقها الجيوسياسي لتضمن بقاء أردوغان على اتجاه بوصلتها، حيث حوّلت حزب العمال الكردستاني إلى جيش يمتد على طول الحدود مع سوريا، وضمنت بذلك قرع أنقرة طبول الحرب للسيطرة على عفرين، بسبب رغبتها بالفصل بين شطري روج آفا الصحراوي والبحري كي لا تنتهي حدود الدولة الكردية على البحر الأبيض المتوسّط، ومع تفعيل أنظمة الدفاع الجوّي التابعة لحلف شمال الأطلسي الناتو كانت ستضمن التصدّي لأيّ رد جوّي سوري محتمل، وبذلك تكون قد فتحت الباب على حرب استنزاف طويلة وسوق سلاح جديد، وضمنت بقاء البيدق التركي في الساحة رغم فشله في إقامة مناطق عازِلة ضمن الداخل السوري، وخسارته السريعة لمواقع نفوذه في إدلب وانهيار عصاباته المسلحة.
إلا أن موسكو ترتّب الشرق الأوسط على قياس مصالحها وتعيد ترتيب الواقع الجيوسياسي والديموغرافي والأمني للمنطقة عبر تعزيز علاقاتها مع حلفائها في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، لذلك عزّزت العلاقات مع أنقرة لتفرض سيطرتها على البحر الأسود وتكسر القوة الأميركية في حوض البحر الأبيض المتوسّط، فجاء إعلان الولايات المتحدة عن تشكيل قوة كردية في شرق الفرات ليضع اللاعب التركي عبر عملية غصن الزيتون في قطار الحلول الروسية للأزمة باعتبارها مسألة تخصّ الأمن القومي التركي، فضمنت خروج مسلّحي درع الفرات وغيرهم من جبهات إدلب، وخروج تركيا من الكنف الأميركي والأطلسي ومعها خسارة الولايات المتحدة لقاعدة أنجرليك، فأخرجت عناصر المراقبة التابعين للجيش الروسي من محيط عفرين باتجاه محيط تل رفعت بعد رفض وحدات حماية الشعب الكردية دخول الجيش العربي السوري إلى المناطق الحدودية في عفرين ،وتحويلها إلى منطقة خفض التصعيد وأعطت ضوءاً أخضر للاعب التركي بمنع قيام كيان كردي يهدّد مصالحهما، وبذلك تكون روسيا قد استكملت ربط تركيا بها وبإيران عسكرياً بعد أن كانت قد ربطتها اقتصادياً عبر زيادة حجم التجارة الخارجية الإجمالية التركية معهما لتصلإ لى حدود 300 مليار دولار، واستكمال السيل التركي والعديد من الاستثمارات التركية في البلدين.
إن نفخ الولايات المتحدة في القنبلة الكردية هدف لإعادة توظيف خارطة سايكس بيكو جديدة على أسس مذهبية وطائفية وعرقية تسمح بقيام حرب أهلية، فسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على حوالى 25%من الأراضي السورية وسعيهم الحثيث للحفاظ على مكاسبهم رغم إدراكهم المسبق أن اختيارهم للكفّة الأميركية سيعني إعلان الحرب عليهم، وفتح الباب على صراع عربي كردي في مناطق التماس المباشر، حيث أن سيطرتهم على الحدود السورية ستعني عزلتهم التامة، فالمعابر مغلقة على طول الخط التركي، والحشد الشعبي يسيطر على الحدود العراقية، ويمكن لدمشق ما أن تستكمل تنظيف البادية السورية حتى تطبّق فكي الكماشة عليهم أيضاً، وبذلك تكون دمشق قد نالت الجائزة الكبرى حيث ستضمن عودة إدلب وعفرين معاً إلى حضنها، وتضع الولايات المتحدة على أعتاب الأفول النهائي في المنطقة.