الكرد وقود الحرب القادمة

ليس من قبيل الصدفة أن يتزامن إعلان الولايات المتحدة عن دعمها لإقامة كيان كردي في الشمال السوري مع فشل مخططاتها في إيران بسبب تراجع حدّة التظاهرات الاحتجاجية، فالإدارة الأميركية لن تقبل بهزيمة مشروعها في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً بعد دحر تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق، ولذا ستناور وتحرّك بيادقها في المنطقة بما يتناسب مع تنفيذ أجنداتها.

الأكراد وقود الحرب القادمة

في أولويات استراتيجيات الأمن القومي الأميركية بسط نفوذها على أوراسيا، والسيطرة على طريق الحرير الجديد لعدم رغبتها بتعاظم النفوذ الروسي وتوجّسها من مارد الاقتصاد الصيني، ولذلك عليها تقويض كافة المشاريع المزمع تنفيذها من شبكات الطرق وسكك الحديد وأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية والإنترنت ومختلف البنى التحتية التي ستربط أوروبا بالصين مباشرة، وفي إطار سعيها لتكون صاحبة النصيب الأوفر من المكاسب ستحتاج لوجود حلفاء فعليين في الميدان السوري يضمنون تحقيق أهدافها، فرحلة إعادة الإعمار السورية يطفو على سطحها خط الغاز المار من المياه السورية شرقاً إلى العراق وإيران وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان انتهاءً بالصين، بالإضافة إلى خط الغاز الذي يسمح لإيران بنقل الغاز إلى العراق فسوريا مروراً بالبحر المتوسّط فأوروبا التي يتنفس قوامها الصناعي حالياً الغاز الروسي، وبالتالي فإن تحريك الولايات المتحدة للبيدق الكردي يأتي في إطار استكمال مخطّطاتها بعد أن أيقنت بضعف الدور التركي على أرض الواقع.

أما روسيا التي تسابق المشروع الأميركي فتحقق أهدافها عبر المشاريع المشتركة مع الدول بعيداً عن القبضة العسكرية، آخرها مع إيران وأذربيجان وأبرزها ممر النقل الدولي ومشروع السكك الحديدية، وربط هلسنكي ببندر عباس لربط آسيا بأوروبا بخط سير يمر بأذربيجان وروسيا وشمال شرق أوروبا، ومشروع آخر  لربط آسيا الوسطى بأوروبا عن طريق تركيا وإلى شواطئ البحر الأبيض المتوسّط في سوريا، وغيرها من المشاريع التي ستضمن تأمين النفوذ الروسي على البحر المتوسّط ، والعمل في الفضاء الأميركي المباشر عبر القواعد العسكرية  لإقامة توازن مع النفوذ الأميركي في أوكرانيا وتركيا، والحفاظ على سوريا تحت راية حلفائها باعتبارها تشكّل المنفذ البحري لطريق الحرير الحيوي لكل من الصين وروسيا وإيران للوصل إلى المياه الدافئة على البحر المتوسّط، وهذا الطريق يحتاج أفغانستان ليربطه بإيران والعراق لربطه بسوريا، وهما كانا ضمن الخطط الأميركية  لقطع طريق الحرير بين الصين وروسيا وإيران، ولذا فإن أية خطوة ضد مشاريعها ستضع الولايات المتحدة وحليفتها "قسد" في مواجهة مباشرة مع روسيا.

واستكمالاً للمشروع الأميركي لمنع النظام السوري من استعادة كافة الأراضي عبر قوات سوريا الديمقراطية التي ستتولّى الانتشار في وادي الفرات على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق، و سيتم دعمها بالمال والسلاح والحماية الأميركية وربطها بكردستان العراق، وتقديم الغطاء والدعم اللازمين لمحاربة الأتراك، وفي الوقت الذي تتحضّر فيه الولايات المتحدة لانتشار القوات في شرق سوريا، تبدو عفرين جاهزة للاشتعال في أية لحظة لوجودها خارج إطار التفاهمات الأميركية الكردية، كما أن تجربة كردستان العراق وحلمه بالتقسيم ليست بدرسٍ كافٍ للقيادات الكردية لتدرك أن واشنطن تعبث بالمنطقة وأنهم سيكونون وقود حربها المقبلة، فعدم  وجود أي  منفذ بحري أو بري أو حدودي مع دول تدعم الانفصال سيضمن سقوطها سريعاً، ومَن يراهن على وعود الرئيس الأميركي ترامب بتحقيق أهدافه الانفصالية أو ينتظر من الإدارة الأميركية الالتزام بوعوده فهو يراهن على ضعف دمشق في الحسم العسكري والسياسي وهي التي شكّلت هذا وصمود عناصرها.

أما الحاخام التركي فعلى  موعد من ختام بطولاته في سوريا فمن كان مهدِّداً بات مهدَّداً في عقر داره، وتعرّض لخسارة هائلة ابتداءً من إدلب التي تتهاوى تحت ضربات الجيش العربي السوري رغم تقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي والعسكري واللوجستي للعصابات الإرهابية، وانتهاءً بعملية درع الفرات التي ستمتد أذرعها لمنبج وعفرين  لمُواجهة دويلة كردية مدعومة أميركياً وتضمن بها الولايات المتحدة إقامة قاعدة استراتيجية في شمال سوريا تتمركز فيها القوات الأميركية، فاللعب على الحبلين أخرج اللاعب التركي خاسراً، فلن يُسمح له بالتوغّل في الأراضي السورية للسيطرة على عفرين خارج إطار التفاهم الروسي نظراً لتواجد قواتها بالقرب من مطار منغ العسكري المحاذي لعفرين، ولأن العلاقات متوتّرة بين أنقرة  وموسكو وطهران بسبب تفضيل جبهة النصرة، يبدو من المستبعد أن تكون هناك معركة عسكرية ضخمة في عفرين تتناسب مع حجم التهديد والوعيد التركي.

في حين أن استراتيجيات الرئيس السوري بشّار الأسد بالصمود والمصالحات وانتظار التطوّرات في الميدان العسكري بما تشتهي السياسة السورية آتت أوكلها، وأصبغ عليها صبغة دولية تضمن استمراريتها من حيث وحدة الأراضي السورية والابتعاد عن شبح التقسيم، وبالتالي فإن اللعب الأميركي الكردي ليس سوى سحابة عابرة ستطحن المشاريع الكردية بدولة شبيهة بالكيان الصهيوني، فما هي إلا بضع أسابيع حتى يتم تحجيم العملية السياسية وإدارة دفّة الحرب بما يضمن القضاء على الجماعات المسلحة والكردية ومموليهم في المنطقة، وعندها لن يعود للمفاوضات في سوتشي وجنيف وأستانة قيمة تُذكر، فالقوى المحسوبة على عواصم اقليمية سيتم القضاء عليها بشكل نهائي.

مما لا شك في أن الحرب  في سوريا ليست بين الفرقاء وإنما بين الدول، وهي حرب غايتها السيطرة على الميدان بأي شكل، ولذلك فمن المتوقّع أن تشهد سوريا مزيداً من الأساطيل على أراضيها.