محور المقاومة بنظام ومفهوم جديدين؟
كلام السيّد نصرالله الذي يُعدّ قفزة نوعية في الأدبيات السياسية التي تستند إلى أسس علمية، في العالمين العربي والإسلامي على أقلّ تقدير، يدفعني للتجرّؤ على الادّعاء بأنه، وبالتعاون مع الحلفاء، يسير نحو ترسيخ مفهوم جديد في الأدبيات السياسيّة تحت عنوان "نظام محور المقاومة".
مفردة "نظام" هي أحد المُصطلحات الهامة والمُستخدَمة بشكل شبه دائم في حياتنا اليوميّة. وقد أخذ هذا المُصطلح بُعداً سلبياً في الأدبيات السياسية لدى شريحة جماهيرية واسعة. لكنّ المراجعة الدقيقة للتعريف العلمي لهذا الاصطلاح تشير إلى "مجموعة من الأجزاء المختلفة المتنوّعة والتي تترابط وتتكامل في ما بينها لتحقيق هدف معيّن".
إذاً يتركّب النظام من أجزاء تتكامل في ما بينها للوصول إلى هدف معيّن، وعند معالجة مسألة واقعية نكون أمام نظام مفتوح (Open System) أكثر تعقيداً من الأنظمة المخبرية التي يتم التعاطي معها كأنظمة مُغلقة (Closed System) بعيداً عن الديناميكية التي تتمتّع بها.
وعندما تكبر المسألة بحضور عدّة أنظمة تصبح أكثر تعقيداً (Complex) وتفرض على الأجزاء التعاون في ما بينها لظهور ما يُسمّى بالتعاون النظمي (Cooperative System)، بغية الحصول على كفاءة أو فعالية (Efficiency) أكبر، الأمر الذي أدّى مؤخراً إلى ظهور مُصطلح جديد تحت عنوان "نظم النظم" [3] (System of Systems).
ولعلّ المراجعة السريعة للأبحاث العلمية التي نُشرت في السنوات الأخيرة تكشف أهمية وتعقيدات هذا البحث الذي يُعدّ من أهم المسائل التي تركّز عليها وزارة الدفاع الأميركية في أبحاثها العسكرية التي تستند إلى فرع بحوث العمليات (Operation Research) في الرياضيات التطبيقية، وهو العِلم الذي يرجع إلى الميدان العسكري حيث ظهر للمرة الأولى في الحرب العالمية الثانية، لينتقل بعدها إلى مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسيّة.
بحوث العمليات انتقلت إلى الحياة الاجتماعية بشكل عام والسياسية على وجه الخصوص تحت إطارين رئيسيين الأول يتعلّق بنظرية الألعاب (Game Theory) التي استخدمتها واشنطن في مقاربتها لأزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفياتي، وأزمة بحر الصين الجنوبي بين الفيتنام والصين، والعشرات من النماذج المُماثلة. أما الإطار الثاني يتعلّق ببحوث العمليات الناعمة (Soft Operation Research) وهو عِلم بريطاني جديد نسبياً ولد من رحم بحوث العمليات التقليدية الصلبة، ولكن بصورة كيفية (غير كمية) لمقاربة المسائل الاجتماعية ومن جملة الطُرق المستخدَمة في هذا الإطار ما يُطلق عليه SODA،JOURNEY MAKINGE ،VSM.
في الانتقال إلى مقاربة هذا الموضوع بما يتعلّق بمحور المقاومة والتطوّرات التي طالت أجزاءه خلال السنوات الست الماضية سواء لناحية ظهور عناصر جديدة، أو رفع مستوى التواصل والتعاون بين الأجزاء السابقة الأمر الذي ينتج فعالية وتعقيداً أكبر من السابق.
ينفي السيّد نصرالله سلبية مفردة "النظام" ويستخدم هذا الاصطلاح بحق الحلفاء، كالنظام السوري والنظام الإيراني، ليكشف في خطاب يوم القدس العالمي عن استراتيجية قتالية جديدة عنوانها حضور الحلفاء "بعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي" في المُنازلة الكبرى مع الكيان الإسرائيلي تحت إطار نظام واحد.
لاحقاً، وفي المقابلة الأخيرة التي ظهر فيها السيّد نصرالله على شاشة الميادين، تحدّث السيّد نصرالله، وقائد "الحزب الذي يقرأ جيّداً"، في إطار شرحه لانتصار محور المقاومة عن أجزاء تعاونت في ما بينها لتحقيق هدف مُعيّن عنوانه الانتصار على الإرهاب.
ومن بين سطور المقابلة الأخيرة حديث السيّد نصرالله عن تعارض أهداف صغرى والتنازل عنها لصالح الأهداف الاستراتيجية كما في قضية العلاقة بين حماس وسوريا، أو تعاطي الرئيس الأسد مع مسألة المُصالحة الوطنية. هذه المسألة أيضاً من المسائل الفائقة الدقّة والتعقيد في العلاقات بين الأنظمة حيث تكفي الإشارة إلى أن جائزة نوبل للاقتصاد في العام 2012 مُنحت لأميركيين رائدين في نظرية الألعاب هما ألفن روث ولويد شابلي، بسبب أبحاثهما التي تتعلّق بتنسيق العلاقة بين الأجزاء المختلفة، والتنظيم بين الأهداف التكتيكية والاستراتيجية، تحت عنوان جديد من نظرية الألعاب يصطلح عليه "Matching Theory".
كلام السيّد نصرالله الذي يُعدّ قفزة نوعية في الأدبيات السياسية التي تستند إلى أسس علمية، في العالمين العربي والإسلامي على أقلّ تقدير، يدفعني للتجرّؤ على الادّعاء بأنه، وبالتعاون مع الحلفاء، يسير نحو ترسيخ مفهوم جديد في الأدبيات السياسيّة تحت عنوان "نظام محور المقاومة". ولعلّه اصطلاح جديد في الأدبيات السياسيّة، اصطلاح بسيط في الشكل معقّد في المضمون تحدّث عنه السيّد نصرالله، بصورة مباشرة أو غير مباشرة في العديد من خطاباته السياسية.
الأوضاع الراهنة تشير إلى ظهور موفق لهذا النظام الذي أسقط دولة "داعش" الإرهابية، ومن خلفها العديد من المخطّطات الأميركية والإسرائيلية والعربية في سوريا والعراق، ولكن مخطئ مَن يعتقد أن تكامل هذا النظام الناشئ، بالمعنى الحقيقي لكلمة النظام لا الاصطلاحي، سيكون بهذه البساطة، بل يحتاج إلى جهود وأبحاث علمية بالمعنى العام جبّارة من كافّة أجزاء هذا المحور للحصول على نتيجة أفضل، لا تنتهي عند حدود الخطابات السياسية أو المعارك العسكرية كون المعركة لا تنتهي عند هذين الحدّين.
فهي مسألة في غاية الدقّة والتعقيد تستلزم اللجوء إلى أساليب علمية بالمعنى الخاص من قبيل أساليب هيكلة المشكلة (Problem Structuring Methods)، لفهم حقيقة المسألة وتعقيداتها، ولاحقاً اللجوء لأساليب حل المشكلة (Problem Solving Methods)، وفي المرحلتين لا بد من استخدام التفكير النظمي (System Thinking) كمنهج لفهم كيف لمجموعة من الأشياء التي يمكن اعتبارها نظاماً أن تؤثّر في بعضها البعض داخل كينونة واحدة أو ضمن نظام أكبر، وذلك عن طريق رؤية "المشكلات" كأجزاء من نظام كلّي بدلاً من التعاطي معها كأجزاء مُعيّنة.
الحديث عن أيّ نظام يستتبع الحديث عن الفعالية أو الكفاءة لهذا النظام، وجملة من العوامل منها:
أوّلاً: وبما أن التكامل لا يقتصر على الشق العسكري، وإن كان هو الأهم، بل يستهدف الأبعاد السياسية والأمنية والإعلامية والاقتصادية، لا بدّ من تشكيل غرف عمليات مشتركة في كل بُعد من الأبعاد الآنفة الذكر، لدى نظام محور المقاومة، بغية التنسيق العقلائي (Rationality) لصالح النظام وليس الأناني (Selfish) لصالح الأجزاء، كون الكفاءة الأعلى للنظام الكلي ستنعكس إيجاباً على كافّة الأجزاء، وفقاً لأسس التفكير النظمي.
ثانياً: هناك ضرورة لدى كل جزء من هذا المحور لتشكيل لجان خاصة ذات ماهية عسكرية وسياسية وأمنية وإعلامية واقتصادية للحؤول دون تعارض الأهداف الصغرى التي تصب في بوتقة الهدف الأساسي لهذا المحور. رعاية هاتين النقطتين تؤدّي للحفاظ على الترابط (Interdependence) والاستقلالي (Dependence) التي تفرضها ضرورات مسألة النظام (System) أو بعبارة أدق نظم النظم (System of systems) في محور المقاومة. النتيجة الأمثل تحصل من خلال إيجاد نوع من التوازن بين الترابط والاستقلالية في آن واحد، وهذا الأمر يتطلّب رعاية النقطتين السابقتين بشكل أساسي.