نقاء الجبهة الشعبية "الشهيد والحكيم والأسير"
تجسد الجبهة الشعبية عبر العقود الخمسة من عمرها المبادئ والمواقف الثابته رافضة التنازل عنها أوالمساومة عليها، رغم الاستهداف والتحديات والضغوط التي تواجهها، بقيت متمسكة بثوابتها، وقدمت من أجل الوطن أثماناً باهظة من دماء قادتها وكوادرها وفي مقدمتهم الأمين العام الشهيد أبو علي مصطفى، ومئات الأسرى الذين مازلوا في زنازين ومعتقلات الاحتلال، وعلى رأسهم الأمين العام المناضل أحمد سعدات.
بمناسبة ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية الخمسين ربما تعبّر نبذة مختصرة عن أمناء الجبهة العاميين– مثلث النقاء الثوري- عن حكيم الثورة الفلسطينية والشهيد أبو علي مصطفى والأسير القائد الثوري أحمد سعدات ولا تفي بحقهم. فالكلمات تقف عاجزة أمام هؤلاء القادة الذين قدموا حياتهم من أجل الوطن. أخط هذه السطور بناء على تجربتي وعملي المباشر مع الشهيد أبو علي والأسير سعدات ومن خلال الاتصال مع الحكيم بحكم عملي، إضافة لما كنت أسمعه وأطلع عليه بخصوص الحكيم.
حكيم الثورة هو الذي جسد وشق مفهوم الوحدة الوطنية وأسس دعائم العمل الوطني وأعطى الدروس في ذلك، ولعل حادثة تمثيل الثورة الفلسطينية والطلب من الحكيم إلقاء كلمة الثورة الفلسطينية بظل وجود القائد ياسر عرفات، إلا أن الحكيم عندما صعد للمنصة في قاعة اليونسكو في بيروت قال جملته الشهيرة "إن كلمة الثورة الفلسطينية........لايلقيها إلا أخي ورفيق دربي قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات"، هذا هو الحكيم الذي خط مع رفاقه النهج الثوري والوحدوي، حكيم الثورة الذي تعرض للعديد من محاولات الاغتيال والخطف من قبل الاحتلال والمضايقة والاعتقال من قبل الرجعية العربية. الحكيم الذي قدم الاستقالة الطوعية ليكون الأمين العام الفلسطيني الأول الذي يتنازل طوعًا عن ترأس الحزب من أجل فتح المجال أمام القيادات الشابة في قيادة الجبهة. الحكيم الذي قدم استقالته وبقي بقلب الجبهة والوطن يتابع ويتصل ويطمئن على الجبهة والرفاق والوطن والشعب وأخبار المقاومة والأسرى والعدوان على القطاع الحبيب. وقد اتصل الحكيم في يوم من الأيام من الصباح الباكر قبل خروجنا إلى المكتب ويطلب من الرفيق أبو علي الحذر وأن يفكر جديًا بما يطلبه الرفاق –الإختفاء- ولكن الضحكات تعالت ورد عليه أبو علي بأن أخبارنا ستكون مفرحة وسنلقن شارون درسًا قاسيًا إذا أقدم عليها، وأنت يا حكيم تعرف بأن الجبهة لاتفرط بقادتها.
أما الشهيد أبو علي مصطفى الذي تعرض لمحاولتين اغتيال قبل استشهاده واعتقل في السجون العربية، واشتهر بعبارته الشهيرة عندما عاد للوطن تطبيقًا لقرار الجبهة الشعبية سنة 1999 "عدنا لنقاوم لا لنساوم" هذا هو القائد الوحدوي الذي قدم حياته للوطن، كان يقول للرفاق عندما يطلبون منه الإختفاء "تبقى من عمري ثلاث سنوات أعطيها للشعب" ملغيًا بهذه المقولة سنين حياته الستين في العمل الثوري الشاق.
أبو علي القائد الشعبي البسيط الحاسم الصارم يختلف بكل شيء عن القادة الفلسطينيين يذهب للحسبة يشتري بنفسه يسير في الشارع. وهنا أذكر عندما خرج المرافقين معه وهم يحملون السلاح، قال لي "ماهذا أنا ماعندي مشكلة مع الشعب وهذا السلاح لامبرر له أبدًا والاحتلال عندما يريد الوصول لنا لا أحد يمنعه" هذا هو أبو علي يطبخ بغياب زوجته ويرتب البيت، أنيق ومنظم ووقته موزع بدقة ولايحب إلا الجد والاجتهاد، دقيق في مواعيده، حنون يحضر لنا الطعام من منزله للمكتب. يسأل عن الرفاق وأهاليهم والمطاردين وأحوالهم ويتصل مع أهالي الشهداء، وعندما تنتهي المكالمة يبكي أبو علي، إنه مدرسة بكل شيء.
أبو علي مصطفى إنسان متواضع بكل شيء، قنوع يعيش حياته بتقشف يطلب قبل نهاية الشهر سلفة من أجل استكمال باقي الشهر، راتبه لايتعدى راتب موظف عادي في NGOs، وبيته مستأجر وحياته بسيطة، لايوجد عنده خدم وحشم هو من يحضر الطعام في غياب زوجته، كل شيء عنده في مكانه، الأشياء والكلمات والمواقف كلها في مكانها، والعلاقات السياسية ركيزة في حياته مثله مثل الحكيم.
وعلى نفس المنوال، القائد أحمد سعدات الذي اشتهر بمعادلته الشهيرة "العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس" الذي أطلقها في ذكرى تأبين الشهيد أبو علي مصطفى، عندما خرج من مخبئه في رام الله، وقال له الرفاق القميص والبلطلون بحاجة لكوي، نظر لهم نظرة أسد وقال "ماذا تقولون كوي شو كوي دماء أبو علي لم تجف وتقولون كوي شو رأيكم ألبس ربطة عنق كمان، اليوم أربعين المعلم والقائد والشهيد"، وخرج وأطلق عبارته التي قتلت من قتل أبو علي مصطفى. هذا هو أحمد سعدات الذي كان يسير في شوارع رام الله وكل أجهزة العالم تلاحقه كان لايحسب حساب لهم وكل همه الجبهة أن تكون عند حسن ظن الشعب. أبو غسان الذي قبل ما لايقبله أي مسؤول تنظيم في العالم، قبل الإختفاء والاعتقال من أجل إعلاء صوت الوطن والجبهة، وأقسم برد الاعتبار للجبهة الشعبية والوطن، أبو غسان الذي شكل مدرسة ثورية ووحدوية وأخلاقية في السجون وكان ومازال قدوة الأسرى ومعلمهم. ومن ينظر لسعدات وهو على برشه في السجن أو وهو يحضر الطعام ويغلي الشاي يجد في تواضعه أنه القديس سعدات. لقد أعطى الاحتلال درسًا قاسيًا عندما أضرب مع رفاقه لمساندة اضراب أسرى حركة فتح حيث وجه طعنة لإدارة السجون التي حاولت الالتفاف على قيادة الإضراب بالتفاوض معه، فكان موقفه منطلق من منظور وحدوي هدفه الحفاظ على وحدة أسرى فتح بأن هناك قائدًا للإضراب تفاوضوا معه واسمه مروان تعرفوه جيدًا، مجسدًا بذلك نهج الحكيم وأبو علي في تدعيم ركائز الوحدة الوطنية.
هذا هو سعدات مثله مثل الحكيم والشهيد أبو علي ومثل أي رفيق وأي موظف فلسطيني قبل نهاية الشهر يستلف مئتين أو ثلاث مئة دولار من أجل اكمال الشهر، حيث أن راتبه لا يتجاوز راتب موظف عادي، وبيته مستأجر وحياته تقشف، فقد أمضى حياته في الاختفاء وفي السجون الإسرائيلية والفلسطينية. وهو أول أمين عام في عهده يتم تصفية وزير إسرائيلي، والأمين العام الوحيد الذي اعتقل في سجون السلطة الفلسطينية، وبقيت بوصلته موجة نحو الاحتلال على الرغم من تجرعه مرارة الموقف الفلسطيني الرسمي للسلطة.
حقيقة ساطعة أن مثلث النقاء الثوري متساوي الأضلاع بكل ماهو عظيم، فهؤلاء القادة لا يمكن تكرارهم في تاريخ الثورة الفلسطينية وهذا المثلث (الحكيم والشهيد والأسير) هو نادر التكرار حتى في تاريخ الجبهة، فالجبهة كانت ومازالت محظوظة لتداول الأمانة العامة بالحكيم والشهيد والأسير، والاحتلال يدرك هذا جيدًا وعلى هذا الأساس كان ومازال يستهدف الضلع الصامد المتبقي من هذا المثلث الثوري العصي على التطويع أو الكسر.
ومن المؤكد أن هؤلاء القادة الثلاث مختلفين عن باقي الأمناء العامين للأحزاب الفلسطينية والعربية حتى العالمية، فهم قادة من نوع آخر ومن طبيعة مختلفة عاشوا حياتهم الخاصة والعامة في انصهار تام في الحزب والوطن، فهم لايعرفون الحياة العائلية الخاصة فكانوا للشعب وليس لأسرهم، ومازال سعدات للأسرى والشعب وليس للعائلة. فمنهم من استشهد وهو يحاول ويتمنى أن يحتضن أبناؤه جميعًا ولم يستطع تحقيق ذلك، ومنهم مازال في الأسر ولم يعش مع أبنائه ولو لليلة واحدة لم يتخيلوا فيها الاقتحام أو الاعتقال أو الاغتيال، فحتى أسرهم لاتعرف معنى العيش مثل باقي الأسر. فقد قبل هؤلاء القادة على أنفسهم كل المشقة ورفضوا كل الامتيازات والعروض والإغراءات للتغيير والتطويع.
لم يسجل في تاريخ الشهيد الرئيس عرفات أنه رفع صوته على الحكيم أو الشهيد أبوعلي مصطفى، فالرئيس عرفات في إحدى المواقف الطريفة أراد أن يوجه رسالة للجبهة الشعبية لعدم استجابتها لأحد مطالبه الحساسة في عهد سعدات، فقام بتوجيه الرسالة للجبهة من خلال ممثلها الذي كان ينتظر ويريد التحدث مع أبا عمار في موضوع خاص بعد إنتهاء اجتماع القيادة، فقام الرئيس وبدأ يصلي وممثل الجبهة أمد الله في عمره ينتظر فأطال الرئيس في صلاته حتى ظن ممثل الجبهة بأنها صلاة التراويح، فغادر وكتب لقيادة الجبهة بأنه لم يستطع الحديث بالموضوع بسبب إطالة الرئيس للصلاة. ولكن في الاجتماع الذي تلاه أحس الرئيس الراحل بأن ممثل الجبهة خلال الاجتماع غير راض، وبحنكته وحدسه كان يعرف بأن الرفيق الممثل لن ينتظر مرة ثانية، وبعد إنتهاء الاجتماع مباشرة طلب الرئيس عرفات من ممثل الجبهة الانتظار، وتحدثوا مطولًا وسمع موقف الجبهة وتم حل الخلاف بنفس الجلسة، فالرئيس كان حريصًا على عدم قطع العلاقة مع الجبهة الشعبية أو مع غيرها من التنظيمات.
وعند التعريج على ميزات الجبهة نجد أنها تمتلك ميزات نوعية تختلف عن بقية الأحزاب السياسية، من ضمنها الطابع القيادي حيث تتميز بمجموعة قيادية يشهد لها العدو قبل الصديق إبتداء من دائرة الأمانة العامة التي امتدت من البداية التأسيسية أي بالحكيم الذي صنع فهمًا حقيقيًا في الممارسة الديمقراطية الحزبية، وأبا علي مصطفى الذي رسم بدمائه وحدة الجبهة والنهج الثوري المقاوم، وأبا غسان الذي قبل لنفسه مالا يقبله أي قائد فلسطيني وجسد روح المقاومة والفعل الثوري وتحمل المسؤولية التاريخية بإعادة الاعتبار للجبهة والوطن ولم يقبل كل الطلبات بعدم الانتقام لدماء الشهيد أبو علي في ذلك الوقت، ووقف في تأبين الأربعين ووجه معادلته الثورية للجناح العسكري للجبهة. فكانت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى عند حسن الظن حيث وضعت حدًا لحياة الوزير المتطرف رحبعام زئيفي ليبدأ فصلًا جديدًا من الاستهداف للجبهة الشعبية وقيادتها حتى انهالت الضربات القاسية على رأس الجبهة بكل مستوياتها وغدت الجبهة مطاردة من قبل الاحتلال وأميركا وبريطانيا والسلطة الفلسطينية. وتكالبت وتآمرت العديد من الأجهزة على الجبهة وطالت كل المستويات وكل الميادين سواء السياسية أو العسكرية وحتى الجماهيرية فتم اعتقال الأمين العام سعدات من قبل السلطة بعدما عجزت إسرائيل وأميركا وبريطانيا من الوصول إليه. وكان الاعتقال بطريقة الغدر التي لانريد هنا الحديث عنها، ومن ثم تم اعتقال الرفاق المتهمين بوضع حد لحياة زئيفي ووضعهم مع العميد فؤاد الشوبكي تحت الحراسة البريطانية والأميركية إلى أن تم هدم سجن أريحا من قبل الاحتلال واعتقالهم ومازالوا في السجون الإسرائيلية، وبنفس الحملة المسعورة على الجبهة آنذاك تم اعتقال نائب الأمين العام السابق عبد الرحيم ملوح وأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والكادر الوسطي وكل من يمت للجبهة واستطاع الاحتلال تعطيل عمل هيئة فرع الضفة الغربية ولو صبت كل هذه الضربات على جبل لتكلم ولكن الجبهة صمدت بوجه الاحتلال.
لقد جسدت الجبهة الشعبية عبر العقود الخمسة من عمرها المبادئ والمواقف الثابته رافضة التنازل عنها أوالمساومة عليها، رغم الاستهداف والتحديات والضغوط التي واجهتها، بقيت متمسكة بثوابتها، وقدمت من أجل الوطن أثماناً باهظة من دماء قادتها وكوادرها وفي مقدمتهم الأمين العام الشهيد أبو علي مصطفى، ومئات الأسرى الذين مازلوا في زنازين ومعتقلات الاحتلال، وعلى رأسهم الأمين العام المناضل أحمد سعدات.