السلام الموهوم

إن الطريق إلى الحرية والتحرير، لا تتأتّى مع هكذا عدو، عبر النضال السلمي، رغم أهميته وله دوره، ولكن إسقاط خيار المقاومة المسلّحة هو كارثة وخطأ استراتيجي، فالمقاومة المسلحة هي السبيل الأمثل للتعامل مع هذا العدو، مع كافة أشكال النضال الأخرى، والمقاومة المسلحة هي ضرب من فنون الحرب ، بحاجة إلى عِلم ومعرفة ،عدا عن كونها وسيلة أو أسلوباً تخدم هدفاً سياسياً أو رؤيا.

إن الاعتراف بالعدو والتنازل له عن 78% من فلسطين، قد فتح شهيّة الاحتلال ومن ورائه داعمية ورعاته

منذ أن توقّف الكفاح المسلّح الفلسطيني لدى منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يعد أحد الخيارات  المطروحة بناء على اتفاق أوسلو، الذي ينصّ على التحوّل إلى العمل السياسي والكفاح السلمي لدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ، وبات شعار المرحلة إظهار مظلومية الشعب الفلسطيني كضحية لاحتلال همجي في جزء من وطنه ، أصبح يُسمّى فلسطين في حدود خطوط الرابع من حزيران لعام 1967، لقد نجح الفلسطينيون في ذلك، وكسبوا تعاطفاً عالمياً، ولكنهم في نفس الوقت خسروا جزءاً عزيزاً وكبيراً من وطنهم ، حيث لم تعد فلسطين الانتداب هي الوطن، بل 22% من فلسطين هي الوطن المنشود، تحت شعار "حلّ الدولتين " هذا الحلّ الذي كرّسته أيضاً المبادرة العربية ، التي حاولت تجاهل حق العودة لولا إصرار الرئيس اللبناني في حينه السيّد إميل لحود، على إدراج هذا البند ضمن " المبادرة العربية للسلام " التي رفضها العدو في حينه ، والتي قال عنها شارون لا تساوي الحبر الذي كُتِبَت به ، إن هذه التنازلات المجانية للعدو، سواء فلسطينياً أو عربياً، تعكس فهماً قاصراً لطبيعة هذا العدو ، وأسباب وجوده، حيث أن مبرّر وجود هذا الكيان ، هو أن يبقى جسماً غريباً وغدّة سرطانية في المنطقة ، وأن يبقى على ارتباط بالدوائر الاستعمارية التي أوجدته ورعته ، سواء الحضن الإنكليزي أو الفرنسي أو الأميركي لاحقاً.. ومطلوب ألا يكون بسلام مع محيطه، حتى لو توافرت هذه الرغبة لدى الكيان الصهيوني، عِلماً أن هذا الكيان يدرك مكامن ضعفه ، سواء على صعيد الجغرافيا أو الديموغرافيا ، ويطمح أن يكون قوياً، بل ومستقلاً عن الإرادات الأجنبية التي أوجدته ، ولكن بحكم دوره الوظيفي فإنه لا يسمح له بأكثر من ذلك ، ليظلّ بحال عداء مع محيطه، لتبرير استنزاف المنطقة، وسهولة نهب خيراتها، وإبقائها أيضاً في حال تبعيّة... وعليه فإن أي حديث عن السلام هو مجرّد وهْم وسراب ، وسلام مفقود.

إن نسيان أو تجاهل هذه المعرفة، يوقعنا بخطأ استراتيجي قاتل، فعودة أي أجزاء من الأراضي المحتلة، خاصة التي احتلت عام 1967، لا يمكن إعادتها بالتفاوض إلا من خلال تسليم إرادتنا ومستقبلنا للإرادة الأميركية ، والتبعية المُطلقة لها(كما حصل مع مصر)، كما أن دول إعلان التحالف الثلاثي ( أميركا ، بريطانيا ، فرنسا) التي تعهّدت ببقاء وأمن هذا الكيان ، معنية بوجوده في حدود الهدنة، أي حتى خطوط الرابع من حزيران لعام 1967، أي معنية أيضاً بإبقاء هذا الكيان اللقيط ضعيفاً لضمان تبعيّته ودوره الوظيفي، وعليه فإن " حلّ الدولتين " هو مجرّد وهْم، ومضيعة للوقت، وحَرْف لطبيعة الصراع الوجودي، من صراع وجود إلى صراع حدود .. ومن صراع تناحري إلى نزاع، أوهم الفلسطينيين أنه بإمكان تحقيق دويلة لهم، فمنهم من اعتبرها مشروعاً مرحلياً تحت شعار الواقعية السياسية، ومنهم من اعتبرها حلاً تاريخياً، ومنهم من رفضها أيضاً.. ولكن اعتقدت منظمة التحرير التي حرفت بوصلتها عن التحرير الكامل والشامل لفلسطين، أنه بالإمكان الحصول على "دويله" أو تطوير السلطة الوطنية إلى " دولة" ، عبر المفاوضات والمقاومة الشعبية السلمية، وقد أثبتت التجربة خلال عشرين عاماً من التفاوض، أن هذا الطريق مغلق ، وأن المقاومة الشعبية السلمية  قد جرّت على الشعب الفلسطيني الوبال ، حيث آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، قد حصدت الوهم ... بل وباتت المقاومة الشعبية السلمية ، والانتفاضات تشكّل ضغطاً على الشعب الفلسطيني أكثر مما تشكّل ضغطاً على العدو .. وباتت معاناة الشعب الفلسطيني نتيجة الإغلاقات وأعداد الجرحى تتفاقم ، فيما العدو ينعم بالراحة والهدوء ..فبدلاً من أن تكون المعادلة عكسياً، وأن تكون فلسطين بيئة طارِدة للعدو أصبحت فلسطين بيئة طارِدة للفلسطينيين أو جحيماً لهم، بل وأكثر من ذلك كحال تعويضية نفسية أصبح البعض يتغنّى بالحجر ، أو ببطولات شباب يواجهون دبابات العدو بصدورهم أو بحجارتهم ويتم إطلاق الرصاص فرحاً لنيلهم الشهادة ، وكأننا نبحث عن الموت وليس الحياه ... ونفرح لهروب جنود الاحتلال أمام صبية يطاردونهم بحجارة أو مقاليعهم ، ونتهكّم على هؤلاء الجنود المحتلين ، في حين يصوّرهم إعلام العدو حضاريين لا يريدون قتل صبية عزّل، وما هروبهم إلا تجنّباً من قتلهم لصبية تحت شعار  "طهارة السلاح".

إن الطريق إلى الحرية والتحرير، لا تتأتّى مع هكذا عدو، عبر النضال السلمي، رغم أهميته وله دوره، ولكن إسقاط خيار المقاومة المسلّحة هو كارثة وخطأ استراتيجي، فالمقاومة المسلحة هي السبيل الأمثل للتعامل مع هذا العدو، مع كافة أشكال النضال الأخرى، والمقاومة المسلحة هي ضرب من فنون الحرب ، بحاجة إلى عِلم ومعرفة ،عدا عن كونها وسيلة أو أسلوباً تخدم هدفاً سياسياً أو رؤيا... فإذا غابت الرؤيا أو البرنامج السياسي ، يصبح العمل المسلح عشوائياً أو موسمياً أو مجرّد فقاعات إعلامية ... كما لابدّ من تضافر الجهود ، وتشكيل جبهة وقيادة موحّدة ، قادرة على قراءة الواقع، وطبيعة العدو، ومكامن قوّته وضعفه، والعمل وفق خطة مدروسة بعناية ، وبنك أهداف معلوم.. وجدول زمني يعطي أملاً بالمستقبل.

كما أن العمل  السياسي والدبلوماسي مهم ومطلوب أيضاً، ولكن لا يجب الركون إلى هذا الأسلوب من العمل ، حيث ما أنجز مما سمّي انتصارات سياسية أو دبلومسية ، هي بالواقع اعتراف ضمني بالعدو، فقرارات الجامعة العربية، وقرارات منظمة التعاون الإسلامي والتصويت في مجلس الأمن والجمعية العمومية، جميعها أكّدت على حق الشعب الفلسطيني في حدود الرابع من حزيران لعام 1967، واعتبرت الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948 كياناً يهودياً.

إن الاعتراف بالعدو والتنازل له عن 78% من فلسطين، قد فتح شهيّة الاحتلال ومن ورائه داعمية ورعاته، على طلب المزيد من التنازلات ، فتارة إسقاط حق العودة ، وتارة الاعتراف بيهودية الدولة ، وتارة بالاعتراف والتنازل عن القدس، وتارة الاعتراف بالمستوطنات القائمة بالضفة الغربية ، وتارة بتوسيع صلاحيات السلطة، هذه السلطة التي أصبحت تتقاسم أدواراً وظيفية مع الاحتلال، وتنّسق معه أمنياً، وجعلت من احتلال الضفة الغربية احتلالاً مريحاً.. فعلى ضوء هذه الوقائع، فإن العدو غير معني بالخروج من الضفة الغربية ، طالما أنه احتلال مريح له، وعبر التاريخ فإن أي محتل لا ينتهي احتلاله إلا إذا ذاق الويلات، وأصبح احتلاله مكلفاً له .. لذا فكل الأساليب الشعبية والدبلوماسية لن تطرد احتلالاً، ولا تسترجع وطناً بحجم فلسطين وأهميتها ..

إن قرار ترامب  قد أعطى فرصة للشعب الفلسطيني الذي انتفض بكل أماكن تواجده، وأعاد الاعتبار للمسألة الفلسطينية أن تكون الحدث الأبرز في الأخبار عالمياً، لذا فعلى القوى الفلسطينية المنظمة أن تلتقط اللحظة التاريخية وأن تكون استجابتها على مستوى التحدّي المطلوب، وأن تكون على مستوى طموحات شعبها المشرّد منذ سبعين عاماً ، وأن تلفظ كل تفريط بفلسطين، وكل تعاون أو اعتراف أو تنسيق مع العدو..وأية محاولة بحث جديدة عن راع أومفاوضات، فالقوة المؤيّدة بالحق لابد منتصرة في حال توافر إرادة المقاومة المسلحة والرؤيا الواضحة ..