الميادين .. أحرجتنا 2017 مرة
جاءت الميادين في الوقت الصعب لتعيد توحيد المتفرّقين، حينما كان الميدان في أوج اشتعاله والشباب العربي يرمي نفسه في البحر ويطلب الهجرة.
يقول المثل "ليس من الحكمة أن يكسر الأعرج عصاه على رأس عدوه"، ولكن الميادين كسرت عصاها على رأس العدو، وكسرت عصا الطاعة على رأس الوهم.
وفي الوقت الذي أراد البعض تقسيم العالم العربي إلى سني وشيعي، وصار المثقف العربي يتعرّض لشتى أنواع القهر والابتزاز العاطفي، جاءت الميادين لتضعنا أمام سؤال واضح وصريح، إذا كانت القدس هي بوصلتنا أم لا ؟.
الحريات والحكم الرشيد، ووقف التخلف والتعصب ومحاربة المال السياسي، وجميع الملفات الإخبارية والبرنامجية الأخرى، كانت أسئلة هامة عند الميادين، ولكن البوابة لدخول القناة والعمل فيها اعتمد على السؤال الأول: هل ترى أن القدس هي بوصلتك أم لا؟.
حين انطلقت القناة كان الشباب العربي يرمي نفسه في البحر، ويطلب الهجرة إلى صقيع الغربية، وقد ضاق به الوطن العربي بما رحب، وكانت الثورات العربية تسيل في الشوارع مثل براكين غضب، وكان الرفاق حائرون، بينما سهر الأعداء حتى الفجر يخططون لقتل الروح المعنوية لأمة تنبض بالحرية وبالكرامة وبالنصر.
أعداء الأمة ومعهم الأدوات الرخيصة والديماغوجية، لم يتوانوا عن زراعة مختبريه لفكرة سني وشيعي في ظهر الأمة كما يغرز الخنجر، وكان على الميادين أن تنزع هذا الخنجر، بثقافة وهدوء من دون قتل المريض، وكان عليها أن تحارب الغربية والاغتراب.
ليست السجون تلك المباني الحجرية المسلحة بالمعادن وبالقسوة والتي يحرسها السجانون والكلاب ويديرها مرضى ساديون بلا رحمة ولا غفران.. وليست تلك الزنازين الباردة والموحشة، بل إن السجون في داخل صدر المواطن العربي أسوأ بكثير من سجون الحكومات والأنظمة وأجهزة الأمن. السجون في داخل صدورنا هي الأكثر توحشاً وأشد برودة.
كنت لوقت قصير أعتقد أن الخلل يقتصر على الأنظمة العربية البطريركية، والأحزاب التي حملت جينات هذه الأنظمة فصارت أسوأ وأقسى. ثم اكتشف في الميادين أن الأمر زاد عن ذلك بكثير.
نحن فقدنا الحرية منذ ألف عام، فقدنا الحريات الشخصية، والحريات المجتمعية وحرية التفكير، وحرية الإبداع، وحرية الاختيار، وحرية الحركة، وحرية المرأة، وحرية الرجل، وحرية الطفل، وحرية الفقير وحرية المثقف.
لو اجتمع المواطنون العرب على قلب رجل واحد، وحطموا جميع الحكومات في ضربة واحدة، لنشأ ظرف أسوأ تقوده أحزاب اشدّ قسوة واقلّ رحمة على المواطن، ولسوف تنتشر الفوضى ويعمّ الخراب، كما يحدث الآن. لأننا لم نخلق بعد بدائل لهذه الحكومات المتهرئة ولم نسع إلى بناء جيل حر ومؤمن بالله وواثق بنفسه في مواجهة التحديات والخطوب، بل نشأ جيل اّخر يطلب تفريغاً في الأجهزة الأمنية، ويتهافت على حضور باهت في تنظيمات تترنح تحت وطـأة الحكام والتجّار.
نبكي لأننا لا نجيد إلا البكاء الغريزي لدرجة لم نعد نصدق دموعنا، أو أننا نقاتل لأننا غاضبون تائهون ضائعون، ونهجم بلا خطة لأننا نعلم في دواخلنا أن ذلك مجرد شكل من أشكال الانتحار الذاتي الذي سوف يريحنا من قلق الحاضر وغموض المستقبل.
تزاوجنا، توالدنا، وأنشأنا جيلاً معجب بنا لدرجة أنه يشبهنا، مع أننا نكره أنفسنا. جمعنا المال ولم يحقق لنا رؤية، وتولينا أعلى المناصب بعدما فقدنا الإحساس، مشينا في شوارعنا خائفين من شبح الصراع الطبقي والمذهبي نبحث عن جهاز امن يحرسنا. أيحرسنا من خيالنا ومن أحلامنا ومن مشتهياتنا؟.. هو حارس خائف وحزين ويقنع نفسه أنه بمسدس سيحمي خائفاً آخر من نفسه.
وأحيانا نريد أن نثبت للراديكاليين أننا "أقوياء مثلهم"، فذبحناهم مثلما ذبحونا، وغرقت أيادينا بالدماء، مواطن عربي يقتل مواطنا عربيا آخر، لمجرد انه من طائفة أخرى أو اسم مختلف. أو من بلد مختلف أو من بنك مختلف.
في الهزيمة نجحت أم كلثوم أن تجمعنا على "دارت الأيام" و "سلو قلبي" و" يا مسهرني" ، وحتى "فات الميعاد"، وفي الصحوة ذبحنا بعضنا على نشيد موطني والجلال والكمال والبهاء والضياء.
نحن بحاجة إلى مدارس جديدة، وعلوم جديدة، وقبائل جديدة وأحزاب جديدة وأنظمة جديدة حين نخلق مواطنا جديداً، حين ننجب من ظهورنا أطفالاً لا يخافون من أصدقائهم خشية أن يكونوا من العسس، ولا يخافون من الأحلام. نخلق مواطناً صالحاً قبل أن نتحدث عن وطن صالح، نحتاج إلى مواطن واثق يحب نفسه قبل أن يكره الآخرين، وقبل أن نشتري بـ 400 مليار دولار صواريخ وبنادق من عواصم اكتشفت نقطة ضعفنا ولم تترك شيئاً للصدفة.
يذهب العربي إلى المسجد ويرفع يديه إلى الله ويطلب من الغفار الغفور، الرحمن الرحيم . ألا يرحم الشعوب الاخرى!.
يدخل العاصي إلى البار ويطلب الويسكي ويدعو الله وهو سكران، أن يرزقه مالاً كثيراً له ولأولاده.
يدخل الطفل إلى الحضانة ليثبت لوالده أنه هزم أقرأنه وسخر من معلّمته ولا يتعلّم إلا نشر جينات والده في مدرسة أخرى!.
يدخل الضابط إلى السجن ويجلد المظلوم ويطلب من الله أن يعطيه الصحة والعافية!.
ثقافة القناع ذبحتنا قبل أن يذبحنا الشيخ الغاضب، وقبل أن يجلدنا. وصرنا نختار ونفارق ونفاضل بين شيخ غاضب وضابط غاضب.
ونخفي خوفنا من المستقبل حتى لا يرى أطفالنا كم هزمتنا الحياة وثقافة الكذب. نباهي بفحولتنا وذكورتنا أمام الأنثى. ونحن نعلم أننا لا نجرؤ على النظر في عيون مجندة صهيونية على حاجز قرب البيت، فنعود لنتأكد أننا لا نزال رجالاً، فنضرب أخواتنا اللواتي أحببننا ونساءنا اللواتي اكتشفن سر خوفنا من أحلامنا.
ثقافة القناع جعلتنا نكذب على أنفسنا وعلى أطفالنا وعلى نسائنا وعلى عشيقاتنا، ونبحث عن أسماء وهمية نتقيّأ بواسطتها حطام ثقافتنا على الفيس بوك.
خلقنا عالماً عربيّاً وهمياً على التواصل الاجتماعي وشوارعنا ملئية بالجرذان والكلاب الضالة والأمراض.
أمشي في شوارع مدينتي فلا أرى سوى جيوشاً عاطلة عن العمل وعاطلة عن الأمل، كاّبة عميقة وحطام بشري واهن.
لكل شاب بلغ الرابعة عشرة من عمره ولا يؤمن بالله ولا يؤمن بوطنه ولا يؤمن بقضيته ولا يؤمن بالرحمة بين الناس ولا يؤمن بالمغفرة فهو كافر يعمل ضد نفسه وضد وطنه. حتى لو حمل كلاشنكوف وأصبح عقيد الحارة.
أحرجتنا الميادين.. إذ أعطت لكل واحد فينا تلك المرآة التي يرى فيها نفسه، ويرى فيها الأخر.
إن أصعب الجراح تلك التي لا تنزف دماً.
"ولسوف يعطيك ربك فترضى" .