قراءة في المُراهنة على العدد السكاني الفلسطيني
في هذه القراءة سنتناول مقولة أصبحت من المسلّمات في العقل الفلسطيني، وحكمت الفعل الفلسطيني المقاوم لعدّة عقود، وهذه المقولة: (إن خسائر الأرواح لدى العدو لا تعوّض بينما الخسائر المادية تعوّض).
انطلاقاً من فهم لمحدودية عدد السكان في فلسطين مقارنة بالعدد السكاني للعرب في العالم العربي، ومن تدني نسبة الإخصاب لدى مجاميع اليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة ، وزيادة نسبة الإخصاب في المجتمع الفلسطيني خاصة والعربي عموماً، وبعبارة أخرى المُراهنة على العدد السكاني للفلسطينيين مستقبلاً، تماهياً مع ما اعتبره الصهاينة (القنبلة الديموغرافية )، وعليه كان همّ الكفاح الفلسطيني إيقاع خسائر بالأرواح لدى العدو، مقابل ما يرتكبه العدو من مجازر وحشية، من دون الاهتمام أو التركيز على الخسائر المادية في البنى التحتية كما أن معادلة الخسائر بالأرواح لم تكن مهمة في العقل الفلسطيني، نظراً للكثرة العددية حتى لو كانت خسائر الأرواح واحداً من العدو مقابل أربعة أو أكثر من شعبنا ومناضلينا، فيكفيهم فخراً أنهم نالوا الاستشهاد، من دون إدراك أن هدف المقاومة الرئيس هو أن ينتصر الحق على الباطل، وأن ينتصر العدل على الظلم، وليس فقط الحصول على درجة ونعمة الاستشهاد.
إن حرب الشعب طويلة المدى، تتطلّب التضحيات، ولكن الإرادة المتمثّلة بالحماسة والرغبة الشديدة في الاستشهاد، والعدد، لا تستطيع التغلّب على القوة المادية الطاغية من دون استخدام الحيلة، فالإرادة وحدها لا تكفي وكذلك المراهنة على الكثرة العددية، فلا غنى عن المعرفة العلمية والخبرة العملية والخيال والحيلة والكفاءة بجميع عناصرها :المقدرة والعِلم والخبرة والنار والإرادة والمشورة، بالإضافة إلى الاطّلاع والقراءة ومتابعة كل جديد. وعليه لا بدّ من الاهتمام بالعنصر الإنساني المقاوم من حيث الوعي والتدريب والتسليح المناسب، والحفاظ على حياته، ليعطي أطول مدة ممكنة وليس على رأي المثل الشعبي (من أول غزواته كسر عصاته)، فإن لم ينجح فرد أو مجموعة مقاومة في تحقيق الهدف المرجو والمحدّد من أول مرة، لأسباب اكتشاف العدو لهم أو لأية أسباب أخرى طارئة، فليس من العار أو المُعيب الانسحاب أو التخفّي، لأن منهج الحرب الشعبية يقوم على استمرار الكفاح من دون توقّف لإبقاء العدو في حال من اليقظة والترقّب ليلاً ونهاراً، ويتوقّع الهجوم المُباغِت في كل يوم أو في كل ساعة وفي أي مكان من أرض فلسطين، وهذا لا يعني أن تحدث عمليات يومية للمقاومة أو كل أسبوع، بل المطلوب أن يبقى العدو في حال من التوتّر والخشية، لإنهاكه واستنزافه اقتصادياً. واستغلال أية ثغرة أو حال ضعف وتراخٍ لتوجيه ضربات محسوبة جيداً، ومختارة بعناية، وفق بنك أهداف مدروس، وليس بعشوائية أو كيفما اتّفق لمجرّد إحداث ضجيج ما، أو اختيار أهداف ليست ذات قيمة، وقد ترتدّ سلباً على مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني كعمليات خطف الطائرات، أو العمل خارج نطاق فلسطين المحتلة، أو التعرّض لأهداف مدنية ليست ذات أهمية كمقهى أو ملهى ليلي أو حاوية نفايات. وذلك من أجل إصدار بيان عن عملية لتقول "نحن هنا" وفق حسابات ضيّقة .
ولا يغيب عن البال، أن هدف الكفاح الفلسطيني يجب أن يصبّ في زيادة الانقسام في المجاميع الصهيونية، وأن يؤدّي الفعل إلى زيادة الجماعات الفرعية المُتناقضة، خاصة وأن مجاميع الصهاينة المحتلين هم خليط من أقوام وإثنيات وجنسيات متعدّدة، فإن لم نُحسن اختيار الأهداف وتشكيل خطر حقيقي يجعل من فلسطين بيئة طاردة، فإن أفعالنا قد ترتد تماسكاً وتعاوناً بين هذه المجاميع، وتكتسب هوية جديدة من خلال تضخيم الخطر وسيل الأكاذيب والخرافات، فالطبيعة البشرية تدفع الناس حينما تغدو حياتهم قاسية وغير آمنة وفي حال خطر جدّي وحقيقي إلى المغادرة بحثاً عن بلاد أخرى أكثر أماناً وسعادة لهم ولأطفالهم، وعليه ولتحقيق هذه الغاية، فإن جميع الشرائع ومواثيق الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية الأخرى، والشرائع السماوية أيضاً، تتيح للشعوب التي تتعرّض للغزو والعدوان والاغتصاب والاحتلال استخدام جميع أشكال القوة المشروعة للدفاع عن نفسها واستعادة حقوقها المُغتصبة، مع الأخذ بالاعتبار بعض الضوابط الأخلاقية، ومما لا شك فيه أن إيقاع خسائر بالأرواح لدى العدو أمر مهم، خاصة مؤسسته العسكرية التي أقيمت عليها "دولة مارِقة"، ولكن هذا يجب أن يكون وفق معادلة معينة أقلها واحد بواحد، وليس بالمحصّلة النهائية أكثر من شهيد مقابل واحد من العدو، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فلا يجوز إهمال الخسائر في البنى التحتية للعدو، مثل وسائل النقل والطاقة وأماكن تخزينها ونقلها، خاصة إذا عرفنا أن هذا المُستعمِر اليهودي / الصهيوني هو مستوطن اقتصادي، جاء إلى أرض فلسطين على اعتبار أنها بلاد اللبن والعسل ، حسب تضليل الدعاية الصهيونية له بالعيش الرغيد والحياة الكريمة والآمنة، لذا من أولى مهمات المقاومة العمل على عدم استقرار هذا العدو، بجعل فلسطين بيئة طارِدة وليس بيئة جاذِبة، بإمكانها أن تستقبل ملايين المهاجرين من يهود العالم، وتعوّض خسائرها البشرية، كما حصل إبان "الثورة المعاصرة" حيث تم استقدام مليون مهاجر من روسيا وحدها، عدا عن الآلاف من دول العالم المختلفة، فلو عملت"الثورة المعاصرة"على تدمير البنى التحتية، لما تمكّن العدو من استقبال هذه الموجات من الهجرة وتوطينها، بل لشاهدنا هجرة معاكسة، ولكن ما حصل نتيجة تلك المقولة الخاطئة: زيادة عدد المُهاجرين الجُدد، ونمو الاقتصاد ، وارتفاع في مستوى الدخل للفرد، بالإضافة إلى تحسّن العلاقات الاقتصادية والتجارية مع العديد من بلدان العالم، وكذلك تحسّن العلاقات السياسية حتى مع الدول التي كانت مُقاطِعة لهذا الكيان، وكذلك زيادة في تعقيدات حل المسألة الفلسطينية، نتيجة زحف الاستيطان لاستيعاب المهاجرين الجدد، وزيادة قوة العدو، ما دفع ببعض القوى الفلسطينية للتراجع عن الأهداف العليا للشعب الفلسطيني، تحت شعارات الواقعية السياسية تارة، واختلال موازين القوى تارة أخرى.
إن استهداف البنى التحتية عامل مهم في الصراع، حيث لا يمكن للاستثمار أن يزدهر في ظلّ عدم الاستقرار، كما أن ضرب الاقتصاد عامل مهم أيضا في دحر الاحتلال أو تصفيته، وذلك لجعل ثمن الاحتلال مكلفاً من جهة ، ومن جهة أخرى لشلّ قدرات وطاقات "الدولة" كي تصبح "دولة " فاشلة، وفي حالة الكيان الصهيوني تصبح عبئاً على رُعاتها وداعميها أيضا. وهذا الاستهداف لا يتطلّب جهداً وإمكانات هائلة من قِبَل المقاومة، حيث من الممكن استعمال أبسط الأدوات في تحقيق مثل هذا التخريب الاقتصادي. ففي تجربة الثورة الجزائرية تم استهداف عشرات أعمدة الضغط العالي للكهرباء بنفس التوقيت، إيذانا بإعلان الثورة، وفي تجربة جنوب إفريقيا تم استهداف المصانع والإنتاج والبنى التحتية بالتخريب، ما حدا بالمهاجرين البيض، رغم عنصريّتهم ووحشيّتهم، للتسليم بالأمر الواقع الجديد، رغم أن سنوات طويلة من النضال على طريقة غاندي السلمية لم تأتِ بأي ثمار للمظلومين السود، وهذا نتيجة إدراك حزب المؤتمر أنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، فأوكل إلى نيلسون مانديلا تشكيل "جيش السهم "، وقد قام نيلسون مانديلا باستشارة الخبراء في الحرب الشعبية من الجزائريين وغيرهم، وما خاب من استشار، حيث أفادوه أن "التخريب"هو أحد وسائل الحرب الشعبية، حرب الضعيف ضد القوي، وأن هذا الأسلوب لا يتطلّب أكثر من مواد متفجّرة، من الممكن تصنيعها محلياً، وأسلحة فردية خفيفة، ومن الممكن استعمال أبسط الأدوات المتوافرة أيضاً، وغير المُكلفة (كالقطّاعات للأسلاك ، والمسامير ، والقدّاحات ، والزيت المحروق ...الخ)، ولكن تتطلّب أيضاً مقاومين لديهم الإيمان بعدالة قضيتهم، والتدريب الجيّد، والخبرة والدراية، والعمل في إطار مجموعات صغيرة تعمل على امتداد الجغرافية الوطنية، ضمن خطة مدروسة بعناية، وبنك أهداف دقيق.
قد يقول قائل: إن بالإمكان إصلاح الأضرار المادية بساعات أو بأيام، ومن ثم حراسة هذه المواقع جيداً، ونقول له: نعم، ولكن تكرار هذه الأضرارسيؤدّي إلى خسائر، وإلى تأخير في المواعيد، وإلى اضطراب في العمل بالإضافة للقلق والتوتّر، وإذا أمكن وضع حراسات ومراقبة لهذه المواقع، فإننا نحيل جزءاً من القوى المُنتجة إلى قوى غير منتجة، إن الهدف من ذلك تنغيص حياة المغتصبين، وإيقاع الخسائر المادية، وإفهام العدو بأنه لن ندعكم ترتاحوا، وتتمتّعوا بحياة أفضل من حياة شعبنا المقموع والمقهور، ولن نسمح لكم أن تعيشوا بمستوى أفضل من مواطنيننا، ولن ندعكم تعرفون الاستقرار ، وهذا يعني أن الاحتلال سيغدو مكلفاً للعدو اقتصادياً، ومرهقاً نفسياً، وأن بلاد "اللبن والعسل"سنحيلها جحيماً لا يطاق لكم، وبيئة طاردة ستدفع العديد من هؤلاء المغتصبين للتفكير بالعودة إلى البلدان التي قدموا منها، خاصة وأن الكثير منهم ما زال يحمل جنسيات مزدوجة، فإذا كانت تصريحات السيّد حسن نصر الله، تدبّ الرعب في قلوبهم، ودفعت بالآلاف إلى هجرة معاكسة، فكيف الحال إذا كانت هناك ممارسات وأفعال فلسطينية حقيقية على كامل الجغرافيا الفلسطينية، من قِبَل مقاومة جادّة وحقيقية ، مؤمنه بحقها التاريخي، وعدالة قضيّتها، وتتمتّع بقيادة حكيمة، صلبة الإرادة، وليس لها استعداد للمساومة أو التنازل حتى في أسوأ الظروف، وكذلك صريحة مع شعبها ولا تعمل على تضليله. فالشعب الفلسطيني شعب حيّ ومعطاء لن يتوانى على مدار مائة عام من بذل التضحيات ، والالتفاف حول مَن يدفع ضريبة الدم من أجل إحقاق الحق، وهزْم العدوان والباطل والأضاليل .
إن هذا الشعب العظيم، لم يتلكّأ عن الفداء والتضحية، فإذا تخلّى أو تنكّر البعض لشعاراته وأهدافه، فإنه بحسّه الوطني المُرهف، يقدّم شباباً وصبايا بعُمر الورود في سبيل رفعة الوطن، ويبتكر وسائله الخاصة به بدءاً من الحجر والسكين وإشعال الحرائق والدهس بالسيارات والمولوتوف، والسلاح المتوافر، ليعلن للملأ بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة، لأن صراعنا مع هذا العدو الذي يشكّل قاعدة متقدّمة للاستعمار، هو صراع وجود وليس صراع حدود، وليعلن أيضا لمن تخاذلوا أو سقطوا في منتصف الطريق أو تنكّروا لدماء الشهداء من الأجداد والآباء، إن في فلسطين شعباً يرفض الموت، ومن حقه وحق الأجيال أن تحيا بكرامة ووقفات عز، وهو شعب يستحق قيادة حكيمة وجماعية، تكون على مستوى التحديات، وتتمتع بأفق واسع الاطلاع، ولديها قدرة على التنظيم والتخطيط والكفاءة، تستنهض شعبها وتعطيه الأمل، لا أن تزجّ به في النفق المظلم، وفريسة للمزايدات والمساومات، فهذا العدو أوهى من بيت العنكبوت، فكفى لمقولات "الجيش الذي لا يُقهر "، وإن "الخسائر المادية تعوَّض بينما الخسائر بالأرواح لا تعوَّض "، "ويا وحدنا"، "والقرار الوطني المستقل" فقد شاهدنا على مدار أكثر من ستين عاماً من تاريخ "الثورة المعاصرة"، بأن هذه الثورة كما قال عنها (كيسنجر): إن فعلها مجرّد خدوش بإمكان (إسرائيل) أن تتعايش معها، لذا فنحن أحوج ما نكون لوقفة تقييمية وإعادة النظر بكل المقولات والمسلّمات التي حكمت الفعل الفلسطيني، والبناء على الخبرات المتراكمة وخبرات الآخرين. والعمل الجاد والدؤوب، في إطار جبهة مقاومة عريضة تستقطب القوى الحيّة، وتعطي الأمل بالانتصار العظيم.