أسباب انهيار داعش
وضعت سلسلة الهزائم المتتالية لداعش، وفقدانه العديد من المدن الاستراتيجية في سوريا والعراق، في دائرة الخطر الوجودي، وبات التساؤل مشروعاً عن مستقبله، وحتمية هزيمته، خاصة بعد سرعة سقوط تلعفر العراقية والقلمون السورية.
التنظيم الذي شغل العالم طيلة السنوات الماضية، وشكّل تهديداً حقيقياً للسلم العالمي يبدو أنه آيل للسقوط. وهنا نطرح أسئلة كثيرة عن حقيقته، وهل كان مشروع استثمار غربياً، وانتهى دوره، أم لا يزال قادراً على مواصلة الحرب كقوة مستقلة؟
بديهي القول إن معركتي الموصل ودير الزور وضعتا التنظيم في سياق تراجعي، وبالتالي دخل مرحلة التفكّك، والانهيار، ولكن، وبالرغم من الهجمة العالمية على التنظيم فإنه لا يزال يقاتل في ساحات أخرى.
لهذا من المبكر الحديث عن هزيمة شاملة، ومركزية لهذا التنظيم. فخسارة مدينة هنا أو هناك لا تعني أفوله، فهو لم يعد تنظيماً محلياً، بل بات أممياً، يتمدّد في آسيا الوسطى، وشمال أفريقيا، وهو لا يزال قادراً على القتال في العراق، وبحيوية عالية.
لقد كشفت معركة الموصل حقيقة تنظيم قوي، متميّز، قادر على طحن القوات المهاجمة، ففي معركة الموصل أنهك المهاجمين، وكبّدهم خسائر جسيمة عبر استخدام الأنفاق، والممرّات التي تمتد على امتداد الشوارع لإخفاء تحرّكاته، واستعمل المدافع التقليدية، والسيارات المفخّخة على حد سواء وبإتقان، واستفاد من القوارب الصغيرة للقتال النهري، وأغرق المدينة بالمفخّخات والقناصة، حتى اضطر الطيران الأميركي أن يغير عليه في اليوم أكثر من خمس مرات. كما نجح داعش في استخدام النيران غير المباشرة مثل قذائف الهاون والصواريخ، وبرع في توظيف الانتحاريين، ومن ضمنهم صغار السن، لذلك زجّ التحالف الدولي بكل إمكاناته في المعركة ضد داعش، واعتمد على الطائرات من دون طيار بشكل كثيف، وفتاك، وكانت الطائرات تزوّد بقنابل يدوية 40 ملم. وبعد عدّة أشهر نجحت قوات التحالف، والجيش العراقي في اختراق الجانب الشرقي من المدينة، واضطر التحالف إلى اتخاذ فترة لبضعة أسابيع لإعادة التجميع لبدء المرحلة الثانية عبر نهر دجلة، واعتمد التحالف على قوة معينة من القوات الخاصة تتولى الهجوم بعد الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبت في المرحلة الأولى.
كانت المرحلة الأولى نقطة تحوّل في منتصف المعركة، حيث تمّت الاستفادة من الأخطاء. ففي المرحلة الثانية قاتلت القوات الخاصة (الفرسان الذهبيون) في شرق الموصل بأنفسهم لشهر، بينما كانت الوحدات الأخرى لا تزال خارج المدينة (الجيش العراقي والشرطة الاتحادية)، ولكن طيلة تلك المرحلة أعطت القوات العراقية لنفسها وقتاً كافياً لاستيعاب أسلوب داعش، ليتبيّن أن نجاح قوة داعش يكمن عندما يهاجمون من محور واحد، إنما يفشلون عندما تفرض عليهم عدّة خيارات، ومن محاور عدّة، حيث يزجّون بأفضل ما لديهم في محور واحد، وهنا يتمثّل نجاحهم، أما في حال الهجوم من عدّة محاور فكانوا يتعرّضون إلى الطحن والخسارة.
لذلك بدأ الهجوم على البلدة القديمة من محاور متعددة، بعد ثمانية أشهر من الضربات الجوية استهدفت المدينة القديمة غرب الموصل. وبالرغم من صعوبة المنطقة، وشوارعها الضيّقة، نجح المهاجمون باختراق المدينة، وشكّلت الغارات الجوية نقطة تحوّل مميتة من خلال تواتر الضربات، ولكن الجزء الأكبر من القتال وقع على الأرض، وتعثّرت القوات العراقية على بُعد 900 متر من مسجد النوري أكثر من أربعين يوماً، قبل أن تنجح باختراقه.
ومن العوامل التي أدت إلى إضعاف داعش فتح الجبهات الأخرى، فقد بدأت عملية واسعة النطاق على داعش في سوريا، ابتداء من ريف حلب الشرقي باتجاه غرب الرقة، كما شنّت "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، المدعومة من التحالف الدولي هجوماً كبيراً على الطبقة – الرقة، وبالتزامن، كان الجيش السوري يتقدّم من شرق حمص – تدمر – السخنة – ومن شرق حماه – عقيربات، تزامناً أضعف داعش، وشتّت قواته، وأفقده هامش المناورة، وبينما كانت تتعثّر "قسد" في الرقة حيث أظهر داعش تماسكاً قوياً في المواجهات بالرغم من الدعم الأميركي، جوّاً، وبرّاً، كانت تجري عليه عملية تدمير ممنهجة، حيث كان الطيران الأميركي يقوم بما يشبه الأرض المحروقة.
وكان داعش يستردّ ما تسيطر عليه قسد ليلاً، حيث اعتمد على الانغماسيين والمفخّخات، وكانت تمتد خطوط الاشتباك على أطراف المدينة من الجهات الأربع، فمن الغرب نجح الأكراد بالتقدّم نحو مساكن الأدخار، والسيطرة على الدوار في معركة استمرت شهراً، بينما تجمّد القتال في الجهة الشمالية بعدما عجز الأكراد عن التقدّم رغم المساندة المباشرة من القوات الخاصة الأميركية، والمدفعية الفرنسية، فحاولت "قسد" أن تغيرّ الخطط، وتشنّ هجوماً من الجهة الجنوبية المُحاذية لنهر الفرات، ولكن في الشرق استطاع التنظيم رد "قسد" وطردهم حتى وسط حيّ الصناعة. بموازاة من ذلك نجحت القوات السورية بفكّ الحصار عن دير الزور.
في هذه الآونة، عملت القوات السورية على فتح عدّة جبهات، واعتمد الجيش السوري مع حلفائه، على عمليات الالتفاف، وتقدّمت الوحدات الصغيرة من عدّة محاور، وعبرت من منطقة وادي الفرات في معدان، وجوارها، عبر السخنة، وتجنّب الجيش السوري المواجهات المباشرة مع الانغماسيين المتحصنين في قريتي كباجب والشولا، وهما أكبر التجمعات السكنية على الطريق الواصل إلى دير الزور.
كان الجيش السوري يناور ويقوم بتغيير اتجاهات الهجوم، ومن ثم يتقدّم بسرعة، ومن خلال المؤازرة من الطيران الروسي، خاصة المروحي، تسهل له التقدّم في الأرض المكشوفة، في الوقت الذي كانت فيه وحدات أخرى تسلك الوديان شمال السخنة في وادي البويب، ووادي اللاطوم، ووادي غضبان، والعديمة، فاضطر داعش إلى الانسحاب السريع، ومن دون قتال، واعتمد الجيش السوري على السير مساحات طويلة، ومن مناطق نائية من شمال كباجب في وادي دوينات، ما سهّل التقاء القوات التي تحرّكت من وادي الفرات غرب معدان، كما تقدّمت الوحدات السورية مبتعدة عن قرى سرير النهر في البادية الشامية إلى وادي هويات قبار والبرياق وصولاً إلى جبل البشري الاستراتيجي، وبذلك تلاقت القوات السورية بالقوات المتقدّمة في منطقة السخنة.
استفاد الجيش السوري من الجغرافيا المسطّحة والمكشوفة، حيث كانت الأفضلية للطائرات والمدرّعات، لذلك لم يقاتل داعش في العراء. وعمد إلى انسحابات متكرّرة في عمق الصحراء، ولم يقاتل في جبال البلعاس، وشاعر، والبشري، ما يعني أنه قد اتخذ قراراً بالانسحاب بشكل نهائي إلى منطقة وادي الفرات، وبخوض المعارك في المناطق المأهولة، مراهناً أن هذا التكتيك سيخفّف من خسائره عوضاً عن خوض المعارك في الصحراء وانكشاف عناصره.
لا شكّ أن سرعة العمليات العسكرية، وتزامن فتح الجبهات أفقد التنظيم القدرة على المناورة، وأمام موجات الطيران الروسي، وصواريخ كاليبير، وسرعة المدرّعات، لم يعد بمقدوره القتال الجبهوي – المباشر عبر خطوط دفاع العمق أو دفاع مستقر.
إن سرعة العمليات العسكرية، وفتح كل الجبهات في وقت واحد ضدّ داعش في العراق وسوريا، ومن اتجاهات عدّة شرق حلب، الطبقة، الرقة، تدمر، الموصل، البعاج، تلعفر، القلمون ما يشبه بالحرب الشاملة، انعكس سلباً على أداء التنظيم، الذي فقد أبرز نقاط قوته، وأهمها:
1 – فقدان القدرة على ربط المركز بالأطراف نتيجة بتر الأطراف من خلال تكثيف الضربات الجوية للمراكز البديلة للتنظيم من أجل تسريع عملية البتر.
2 – تجفيف منابع الدعم والانتماء والالتحاق بفعل تحييد الدول المجاورة للعراق وسوريا والأردن ولبنان وتركيا.
3 – دفع التنظيم للخروج من الأماكن المأهولة إلى العراء والمناطق المكشوفة.
4 – التناغم العسكري من دون تنسيق أم معه بين المحور الروسي – الإيراني – والمحور الأميركي.
5 – استهداف القيادات العسكرية الفاعلة والقيادات الناشطة في الدعاية.
6 – الاختراق الواسع في بيئة التنظيم مثل الرقة والموصل وغيرها من خلال زرع خلايا وتجنيد شخصيات مقرّبة من داعش توفّر معلومات ووقائع وترصد التحرّكات.
7 – تكثيف الحملات العسكرية طيلة السنوات الثلاث الماضية بعد استنفاد التنظيم لكل عمليات الصمود.
8 – فقدان التنظيم الحاضنات الشعبية نتيجة سوء إدارة واستعداء جميع القوى المعارضة في سوريا.
9 – الانشقاقات المستمرّة، وتمرّد بعض القيادات لا سيما في الأماكن التي وقعت تحت حصار قوي، وطويل، أو الانشقاقات التي كان لها طابع مناطقي، مثال التكتل الروسي مقابل تكتل الوافدين من دول أخرى.
10 – ضعف الثقة عند قيادات التنظيم من أصول عراقية بالقيادة الوافدة من مناطق أخرى.
11 – محاصرة التنظيم مالياً، وضرب مراكز استهداف وزارة المال في التنظيم الذي أثّر على تمويل المشاريع، وتجنيد المقاتلين.
12 – تشتت الرؤية والخطط الاستراتيجية الموضوعة عند التنظيم.
13 – تحويل التنظيم من دائرة الفاعِل، والبادئ، إلى دائرة المفعول به، والمدافِع عن الأرض.
وبالنتيجة، فقد أدّى البتر بين المركز والأطراف إلى ضعف التواصل بينهما، ما أفقد التنظيم عملية التنسيق الضرورية.
كذلك، فإن تأخّر وصول الأوامر من المركز إلى الأطراف، وتأخّر وصول المعلومات من الأطراف إلى المركز خلق مجالاً للتمرّد عند الأطراف بعد شعور القادة الفرعيين بالقدرة على الاستقلال من سطوة المركز، وقد أفسح ذلك مجالات للاجتهاد عند قادة الأطراف في تقدير الوضع، ما أنتج تناقضاً مع توجيهات المركز أو بقية الأطراف التي سيكون لها تقديرات خاصة أيضاً في إتاحة المجال للشائعات داخل التنظيم بين الكوادر وبين القادة نتيجة القصور في التحكم، ولنقص في المعلومات، كما سهولة الاختراق الاستخباري للقوى داخل بنية التنظيم عسكرياً نتيجة تآكل التخطيط المركزي داخله، وإفقاده القدرة على المبادرة، وهذا أدخل التنظيم في مرحلة التهديد الوجودي في سوريا والعراق، رغم محاولات التنظيم التماسك عسكرياً وداخلياً، ومحاولة التعويض في أماكن أخرى، من خلال الظهور بقوة كبيرة في شبه جزيرة سيناء، وتواصل الاحتفاظ في مدينة ماراوي في الفليبين، ومواصلة قتاله لجبهة تحرير مورو، كما يواصل ضرباته القوية في أفغانستان، مع تراجع ملحوظ في ليبيا.
مُنيَ داعش في العراق بالخسائر الكبيرة، وانحسر في بقع جغرافيا أقل بكثير من المساحات التي كان يفرض عليها سيطرته، وقُتل العديد من عناصره في معركة الموصل وتلعفر، والغارات الجوية المتواصلة التي استهدفت بعض قياداته في مناطق أخرى، كالقائم ومناطقها والحويجة ومناطقها، فسعى للإبقاء على العناصر العراقية، والتي تسيطر الآن على إدارة المعارك، وهي لديها قدرة على الحركة، والانتشار، والتنقّل من محافظة إلى أخرى، ومن خلال المال او التمويه، وهم من سيبقى في العراق، ويستمر عملهم على شكل خلايا صغيرة، ولديهم الإمكانات، ويسيطرون على مخازن، ومستودعات أسلحة عديدة منتشرة في عموم المناطق السنّية.
بانتقال عناصر داعش العرب إلى الحدود العراقية – السورية، سيكون موقعهم الجديد بامكانات محدودة، وقد يتنقّلون بين سوريا والعراق، والبعض منهم سيجد طريقاً إلى تركيا للعودة من حيث أتى.
أما عناصر داعش الأجانب، فسيكون طريقهم إلى أراضي كردستان العراق، والخروج من العراق. أما العناصر الباقية منهم، من العناصر المتشدّدة، والكثير منهم من الانغماسيين الذين تركوا كل شيء خلفهم ونهايتهم في أرض المعركة، ستكون السيطرة في النهاية لعناصر داعش العراقيين فقط، وهم من سيدير المعارك على شكل حرب العصابات.
ومن هنا يدور الحديث عن مستقبل التنظيم، ومستقبل عناصره، وقياداته، ولكن عُرف عن هذه الجماعات قدرتها على الانكفاء، والتكيّف، حيث تمكّن تنظيم الدولة من الكمون لثلاث سنوات في عدّة مساحات صحراوية في العراق، قبل أن يعيد نشاطه في الساحة السورية، ولكن هذه المرة تضاءلت فرص التنظيم في الاختباء في مساحات الصحراء في العراق وفي سوريا، وصار الاتجاه هو اللجوء إلى خيارات أخرى أهمها الذوبان في المدن، والقرى، التي يشتركون فيها بالانتماءات العشائرية والعائلية.
أما القيادات، فلن تتمكّن من البقاء، والذوبان في تلك القرى المحلية في سوريا والعراق، وبالاختباء والتخفّي في مجتمعات لا تربطهم بها علاقة سابقة، بحيث لا يمكن التعرّف على هويتهم. أما القيادات الأكثر أهمية، فستلجأ على الأغلب إلى مناطق نائية، كما في جبال مكحول، وصحراء الجزيرة قرب سامراء، ومناطق غرب الأنبار، ويبقى رهان التنظيم على الوقت، وإطالة الصراع حيث سيركّز التنظيم عملياته على الهجمات الخاطفة على ثكنات ومواقع القوات الحكومية في العراق وسوريا وخصوصاً في المناطق التي تحد المساحات الصحراوية، والتي سيركّز التنظيم فيها على هدف السيطرة، والتمكين في المدن، إلى الهجمات الخاطفة السريعة ثم معاودة التخفّي بعيداً عن المدن، بانتظار ظهور التنظيم مجدداً في تطوّر مسار الصراع في العراق وسوريا بالنسبة إلى السنّة، إذ سيعود بعض السنّة لدعم هذه التنظيمات الأصولية إذا تواصلت حملة الإقصاء الممنهجة لهم، خصوصاً أن مكوناً آخر بات يشكّل تهديداً ديمغرافياً لمناطق العرب السنّة. ويحاول التنظيم الآن إعطاء الأولوية للحفاظ على موارده البشرية، ويقنّن ما يصرفه في عملية تأخير تقدّم خصومه من أجل الحفاظ على هذه الموارد في رقعة تكاد تختزل بتراجع ما بات يصله من مهاجرين، يحتاجهم قتالياً ورمزياً. وسيعمل التنظيم على نقل المعركة إلى الشبكات المنتشرة في العالم، وتحريك الخلايا المنفردة إلى عدد من المدن الكبرى حول العالم، وإعطاء تلك العمليات بعداً معنوياً لاستعادة عمليات الاستقطاب، أو ربما يكون إعادة إنتاج داعش آخر، بمسميات أخرى من الجهاد المعولم، وقد يكون أكثر دموية، وسيكون هناك الكثير من المنازلات، في أفغانستان – ليبيا – سينا، شمال أفريقيا، وآسيا الوسطى.
لا شك أن هذا التنظيم سيبقى مثيراً للجدل، ومن دون أفق يحدّد مستقبله، فهو حتى الآن يفتقد إلى المشروع السياسي، وعدم القدرة على ربط التكتيك بالاستراتيجية، واستعداء كل الأطراف، المحلية والاقليمية والدولية، ما عجّل تشكل الأحلاف ضدّه كونه يجد نفسه بديلاً عن الجميع.
وفي كل الحالات، نحن دخلنا في مرحلة من المواجهات الجهادية ستمتد أجيالاً، وبحال أفول داعش، سنكون أمام تفريخ حركات مشابهة، ستكون أكثر بأساً، وقوة، وخبرة، كما حدث سابقاً مع تنظيم القاعدة، فهذه التنظيمات تتوالد، وتنشطر، ولكنها لا تموت، وحسب كل التجارب، "الخارج من رماد الوحش يكون أكثر فتكاً”.