هل كانت "المشرقية" سبباً لاغتيال ناهض حتّر؟
دوافع عديدة تلاقت من أجل اغتيال الصحافي ناهض حتّر، وذلك لخطورة ما يحمله حتّر من مشاريع وطنية وقومية على المنظومة السياسية العربية والمنطقة.
شكّل اغتيال الكاتب والمفكّر السياسي العربي ناهض حتّر علامة فارقة في تاريخ ساحات الصراع الثقافية العربية، رغم أنه ليس المشهد الدموي الاغتيالي الأول على تلك الساحات، لكن خطورة ما يحمله حتّر من مشاريع وطنية وقومية على المنظومة السياسية العربية والمنطقة، فرض تميّز مشهد الاغتيال.
الحال الفكرية وما تحمله من مشاريع في عقل حتّر كثيرة ومتعدّدة وولّادة، لم تتوقف يوماً، ولعلّ أخطرها فكرة ومشروع المشرقية التي بدأت تتشكّل معالمها مع بداية العدوان على سوريا، لما لهذا المشروع من أثر على المشهد العربي الحالي وما يواجهه من صراعات، كادت أن تنجح في تفتيت الحاضر العربي؛ إيديولوجياً وجغرافياً، وتعيد بناء تحالفاته على أسس رجعية وطائفية وإثنية وولائية، تخدم في مخرجاتها المشروع الصهيو - أميركي في المنطقة، المعلن عنه صفاقة من قبل الإدارات الأميركية والصهيونية.
تشاركت في اغتيال حتّر دوافع داخلية وخارجية؛ تلخّصت الداخلية منها في التقاء مصالح تنظيمات الإسلام السياسي بطبقة سياسية فاسدة، ساهم حتّر خلال أكثر من ثلاثة عقود بكشفها، فكان صوتاً جريئاً تعرّض لها ووقف بوجه مشاريع تسوية القضية الفلسطينية على حساب الشعبين الفلسطيني والأردني، وفضحها بكل مراحلها.
أما الدوافع الخارجية فمسّت الواقع السياسي العربي من خلال تعرية مشهد ما سُمّي غربياً "الربيع العربي" وأدواته من تنظيمات الإسلام السياسي المذهبية، وبُعد التحالفات الكونية ضدّ سوريا وأثرها على المشهد الجيوسياسي العربي.
وتلتقي الدوافع الداخلية والخارجية معاً أمام مشروع "المشرقية" الذي حمله حتّر ورفاقه، عمليّاً شكّل هذا المشروع نقطة التجمّع أو التلاقي بين تلك الدوافع، لما له من خطورة حقيقية كبيرة على مشاريع ومصالح طبقة الفساد داخلياً والقادة المناهضين للمشروع القومي التقدمي والمرتبطين بالمشروع الأميركي الصهيوني على صعيد المنطقة، وخطورة أكبر على المشروع الوهّابي وزعمائه من آل سعود، وخطورة مصيرية على مشاريع تنظيمات الإسلام السياسي الإخواني (داخلياً وخارجياً) ومشتقاتها من داعش والنصرة وجيش الإسلام وأجناد الشام وغيرها الكثير على اختلاف مسمّياتها.
لم يعد خافياً على متعقّل حيثيات وأبعاد المشروع الصهيو - أميركي في المنطقة، والقاضي بإعادة ترتيب المنطقة جغرافياً، ليفضي إلى عزل ايران (داعمة المقاومة) وتقسيم سوريا المركزية في دعم مشروع المقاومة، والعراق المتململ من النفوذ الأميركي والمتقارب مع إيران وسوريا، وإنهاء وجود حزب الله ومشروعه المقاوم، فكان لابدّ من كسر الحدود الجغرافية الجامعة وتشييد أخرى جديدة بأدوات إرهابية مذهبية تضمن نجاح مشروع التفرقة المشبوه.
ما لم يكن في الحسبان كما أكّد ذلك "فورد" آخر سفراء أميركا في دمشق، ظهور جبهة واسعة ومحور مقاومة لهذا المشروع، خرج من رحم الأزمة السورية، وردّة فعل باتجاه كسر الحدود من قِبَل محور المقاومة، ما هدّد المشروع الصهيو - أميركي الإخواني.
فهل كانت "المشرقية" دافعاً لاغتيال حتّر؟
تقوم فكرة المشرقية في فكر الشهيد حتّر على مجموعة من المبادئ:
الأول: استناداً إلى حقائق جيوسياسية يرى حتّر بضرورة قيام إطار يجمع سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين، بعد كسر الحدود التي فرضتها التنظيمات الإرهابية ومشغّليها. يكوّن هذا الإطار: دولة واحدة أو كونفدرالية أو فيدرالية، ليتمكن من بناء مشروعه للدفاع المشترك أمام ثلاثة تهديدات حقيقية: الكيان الصهيوني الذي يحتل أراضي عربية والأطماع التي لا تنتهي، الخطر التركي ومشروعه التوسّعي بمساعدة تنظيمات الإسلام السياسي، ويحتل على الواقع أراضي واسعة من سوريا، وخطر التهديد السعودي الوهّابي التاريخي منذ العشرينات من القرن الماضي.
الثاني: انطلاقاً من البُعد الثقافي لشعوب المشرق، يرى حتّر أن التقارب الثقافي يتأتّى ببعده الشامي، لينطلق المشروع المشرقي في هذه الأقطار ببُعد قومي ووطني ومدني لا طائفي.
الثالث: لا يرى حتّر بالمشرقية مشروعاً للانفصال عن العرب، بل إطاراً جغرا - سياسياً وتنموياً واحداً يخدم المشروع التكاملي العربي.
الرابع: وحول العلاقة مع إيران، يرى حتّر بالمشرقية قوة عسكرية واقتصادية قادرة على التحالف مع إيران على أساس الندية، ومصلحة مشتركة تجمعهما في مواجهة الأعداء من جهة، والتعاون الاقتصادي من الجهة الأخرى.
الخامس: يرى حتّر أن قضيتنا الداخلية سوريا الفكرة، كونها مركزاً قومياً ومركزاً للعلمانية ومركزاً للتعددية الثقافية والدينية وللمنظومة الإنتاجية والتنموية، هذه الأبعاد يقوم عليها مستقبل سوريا والمنطقة، ولأنها الوحيدة المستقلة فهي مركز وقيادة المشرقية.
بالمحصّلة وبعد عام على اغتيال شهيد الفكر، صاحب قلم (بهدوء)، يمكن القول: إنّ فكرة المشروع المشرقي وما تشكّله من تهديد حقيقي لكثير من الأطراف، خلقت تحالفاً لأعداء المشروع من قوى داخلية وخارجية، وجدت في اغتيال حتّر منظّر المشرقية محاولة للخلاص من المشروع، وهذا ما يفسّر تعدّد قَتَلَة حتّر والمشاركة الداخلية والخارجية في الجريمة.