لبنان والذئب

ليس المطلوب أن يُعزل هذا البلد عن محيطه، ولكن أكثر البلدان تأثيراً في المحيط هي البلدان المستقرة داخلياً، فلماذا لا يُعطى هذا الاستقرار الاجتماعي والمعيشي والاقتصادي أولوية في عقل المواطن اللبناني كي يكون أقوى في مواجهة الإرهاب والفوضى الإقليمية.

هل المطلوب أن يُنتخب النائب في البرلمان تبعاً لتحالفاته الإقليمية؟
منذ نعومة الأظافر نسمع بقصة ليلى والذئب المشهورة، تلك القصة التي تتردد آلاف المرات على مسامع الأطفال وحتى الكبار، ليلى الفتاة الضائعة في تحديد خياراتها تصل إلى مفترق طرق وبدل أن تلتزم بطريق مصالحها فهي تسلك درب الذئب الذي يصل بها الى الهلاك.

اليوم وبعد عقود من انتهاء الحرب الاهلية في لبنان، لا تزال ليلى اللبنانية تصغي لذئب ضيّعها وضيّع مستقبلها، في حين يجمّل الذئب خياراته التي يطرحها عبر تعظيم الهمّ والمخاوف، فيما المستقبل مبهم عند اغلب اللبنانيين..
لا يختلف اثنان أن العاصفة الشعواء من التكفير والإرهاب والحروب التي تضرب المنطقة تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للمواطن اللبناني، فلا تكاد تمر في شارع أو تجلس في مقهى إلا وتسمع تحليلات مختلفة للوضع السياسي والامني الراهن في لبنان، لا تغيب سوريا والسعودية وإيران، عدا عن إسرائيل وأميركا عن هذه النقاشات الحادة التي ينقسم حولها اللبنانيون بشكل واضح، منهم من يدافع عن خيارات محور المقاومة ومنهم من يتبنّى الخطاب الآخر في مقاربة الأزمة في المنطقة وفي لبنان.

كل هذا يحدث في ظل شلل اجتماعي ومعيشي في بلد العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتر، نفايات في الشوارع ورأس هرم سياسي غائب، هذا عدا عن خدمات متردية ووضع معيشي صعب، ورغم أن هذه الأمور يجب أن تكون أولوية الهموم لدى اللبناني، إلا أن جزءاً كبيراً من اللبنانيين مهتم بالحرب السعودية على اليمن، ليدافع عن المملكة أو يهاجمها، ووضع الهدنة في سوريا، ليقف مع الدولة السورية أو ضدها، أو حتى الانتخابات التشريعية الإيرانية، ليهاجم إيران أو يمجّد ديمقراطيتها، وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر لا يعد جريمة ابداً، فالشعب الذي لا يتفاعل مع محيطه، هو شعب ميّت.. ولكن ماذا يُقال عن شعب يتفاعل مع محيطه أكثر من التفاعل مع ظروف وطنه؟ في خضم هذا الوضع، تحضر مقاربة قاسية، على اللبناني أن يعلم بها، ويضعها في باله، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جولة قصيرة في شوارع مدينة حلب وخطوط تماسها، ورغم الدمار والحذر الدائم التي تعيشه المدينة، لا تجد كيساً واحداً للنفايات في الطرقات. رغم القصف والحرب والإرهاب والقتال المتنقل تجد أن بلدية حلب تعمل على تأمين أدنى متطلبات الحياة الانسانية فلا يغرق المواطن بفضلاته، وبعكس بيروت فلا أنهار نفايات هنا.


وكذلك في السعودية، وبعيداً عن سياساتها الخارجية، في لمحة سريعة على الإعلام السعودي الداخلي من صحف وقنوات إخبارية، تجد أن الدولة هناك تولي اهتماماً كبيراً للوضع المعيشي في مختلف المناطق السعودية. وزير يقال للتقصير في مهامه، ومدير مستشفى يحال للتحقيق لرفضه علاج أحد المرضى، ومسؤول في بلدية يحاسب على عدم نجاح إجراءاته في الحد من الفياضانات في الطرقات، هذا عدا عن التأمين الصحي والخدمات المعيشية والهبات للمواطنين المحتاجين، ويكفي برنامج البعثات الخارجية الذي تطبقه المملكة لطلابها كي نعلم الاهتمام الذي توليه الدولة لمواطنيها.

وإذا أردنا أن نتحول بالمشهد إلى إيران، هناك في بلاد الفرس، ورغم العقوبات القاسية لأكثر من ثلاثين عاماً، تجد طهران آية من الجمال العمراني وخلية نحل من المواطنين الإيرانيين الدؤوبين في العمل والسير ببلادهم نحو تطور ذاتي مدهش.. هناك في طهران للمواطن أولوية في حياته، وهي الاولوية المعيشية والوطنية، قد يكون لدور ايران في المنطقة هامش في خيارات الإيرانيين السياسية، إلا أن الأكثرية المطلقة من هؤلاء أهدت أصواتها على أساس معيشي واجتماعي واقتصادي، هم في حياتهم السياسية ينطلقون من أوضاعهم المعيشية والخدمات المقدمة لهم، يختارون الأصلح برأيهم كي يقدم لهم خدمات أفضل على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي بعيداً عن التأثر المطلق بمجريات التطورات الاقليمية. وهنا بيت القصيد.
إن المبدأ الأساس للديمقراطية يقوم على المحاسبة، وهي محاسبة، مهما تشعبت أطرها المؤسساتية، فهي تنطلق بالأساس من محاسبة الشعب لمسؤوليه على أدائهم، من يفشل أو حتى يقصّر في تأمين الخدمات للشعب عليه أن يتحمّل محاسبة الشعب المتمثّلة بعدم انتخابه أو حتى سحب الثقة منه، فأين الديمقراطية من الحياة السياسية في لبنان؟

في لبنان ينتخب اللبناني على أسس وعناوين ضخمة بعيدة كل البعد عن واقع الانتخاب الذي نصت عليه الأنظمة الديمقراطية، فهل المطلوب أن يُنتخب النائب في البرلمان تبعاً لتحالفاته الإقليمية؟ أم أن المنطقي أن ينتخب النائب انطلاقاً من عمله للنهوض بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي للمواطنين الذين فوّضوه؟

هل من المنطق أن يتجه اللبناني إلى إيلاء اهتمامه بمجريات الأوضاع في البلدان الأخرى بعيداً عن وضعه اللبناني المتردي في الداخل؟

المؤسف أن الكلام عن الانتخاب والانتخابات هو بحد ذاته مفهوم مؤجل لدى اللبنانيين، فحتى وجهة أصوات اللبنانيين وكيفية التأثير فيها، باتت مواضيع "مُمّددة"، فحتى إجراء الانتخابات بحد ذاته بات خاضعاً للتطورات الاقليمية، تطورات تعيدنا إلى الذئب في قصة ليلى.
هذا الذئب الذي يسعى منذ الحرب الأهلية في لبنان إلى تخديرالمواطن اللبنانين واليوم وصلت درجة التخدير إلى الغيبوبة الكاملة، فحتى روائح النفايات المنتشرة في شوارع بلاد الأرز لم تعد تؤثر باللبناني كي يستفيق على واقعه الراهن. واقع يفيد انه حتى في عز الحرب، تعيش المناطق المتؤثرة بها اوضاعاً افضل نسبياً من العاصمة اللبنانية في زمن السلم. واقع يفضي إلى أن دولة كالسعودية ذات التأثير الضخم على الصعيد الاقليمي ، تهتم بالمواطن حفاظاً على تماسكها الداخلي ووضعها الاجتماعي..

أما شعب لبنان، فقد خدعه الذئب فسلك طريق الوهم ليصبح أكثر ملكيّة من الملك بذاته. يضع مصيره وحياته ومستقبله في معادلات لم يبق أحد في العالم إلا وتدخل فيها، وهنا يُطرح التساؤل "ألا يجدر باللبنانيين أن يديروا الظهر للذئب ويسلكوا طريق وطنهم؟".

ليس المطلوب أن يُعزل هذا البلد عن محيطه، ولكن أكثر البلدان تأثيراً في المحيط هي البلدان المستقرة داخلياً، فلماذا لا يُعطى هذا الاستقرار الاجتماعي والمعيشي والاقتصادي أولوية في عقل المواطن اللبناني كي يكون أقوى في مواجهة الإرهاب والفوضى الإقليمية، فلا انتخابات، ولا خدمات، ولا معيشة كريمة، ولا استقرار اقتصادي، وفوق كل ذلك حالة من الضياع في التفكير بالأولويات على الصعيد الشعبي لدرجة يمكن القول معها أن لبنان، أضحى كسفينة تتسرب إليها المياه، تغرق شيئاً فشيئاً، فيما بحّارته وبدل أن يشغلوا بالهم في كيفية تعويم مركبهم، يقلقون على المرسى الذي ستصل إليه السفينة، وبطبيعة الحال إذا بقيت الأولويات على هذا المنحى، فالمرسى الوحيد الذي سيصل إليه هذا البلد هو الغرق في أعماق بحر هائج من الضياع في تحديد الأولويات. فهل يبقى اللبنانيون على طريق الذئب المعروفة نهايته، أم ستتغيّر القصة ولو لمرّة؟