لهذه الأسباب أخفق اليسار اللاتيني
لم تكن الحرب الاقتصادية ولا الخيارات السياسية الخارجية هي السبب الرئيسي في إخفاق اليسار اللاتيني، فالإشتراكيون مسؤولون تماما عن الفشل في تحقيق آمال الناس وإعطاء خصومهم الذرائع الكافية لتحويل الرأي العام من مساند بالمطلق إلى محبط ويائس.
أتى اليساريون على صهوة الحلم اللاتيني في طَي صفحة مأساوية من تاريخ هذه المنطقة وعقدت الآمال على تغييرات جذرية تعيد الحقوق الى أصحابها، حقوق تبدأ في توزيع عادل للثروة وتنتهي عند حفظ السيادة والكرامة الوطنية التي طالما ناضل اللاتينيون لكسبها وقدّموا على مذبحها تضحيات جسام.
قد لا يعجب الكثير من اليساريين الحديث عن عدم اكتراث مواطنيهم لأيديولوجيا اليسار بقدر ما كانوا تواقين للتغيير والرهان على قرب الطبقة السياسية الجديدة من واقع الناس الأليم وبالتالي كان لا بد من حسابات تراعي طموح الفقراء بعيدا عن الغرق في النظريات العقائدية على أن يكون السلوك السياسي العملي هو الفيصل في التصديق على هذه التجربة والإيمان بصدق شعاراتها.
تحت وطأة هذه الآمال حصد اليساريون انتصارات متتالية متسلحين بتفويض ناخبيهم اللامحدود، وانتقلت التجربة التي أصابت مكامن الجرح في بداياتها الى معظم الدول اللاتينية بانتظار تحقيق النتائج المرجوة. عاش الحكام اليساريون فترة حكمهم الذهبية، الممتدة منذ تسلم الزعيم الراحل أوغو تشافيز الحكم في فنزويلا عام 1998، على وقع نجاحات متراكمة، تجربة حالت دون تقدمها إخفاقات جسيمة عادت بالناس إلى مربع الاحباط الاول حيث بدات عملية البحث عن البدائل التي باتت شديدة الصعوبة خصوصا وان الخيارات ضاقت بين يمين يبني سياساته على تغليب مصالح الشركات الكبرى والابتعاد عن ملامسة احتياجات الطبقات الفقيرة وبين يسار لم يستطع الحفاظ على إنجازاته وأخذته زهوة السلطة الى ارتكاب الأخطاء القاتلة، فما هي الأسباب التي أدت الى إخفاقه وتراجع شعبيته الى الحد الأدنى بهذه السرعة القياسية؟
أولاً: إن أبرز ما ميّز اليساريين عن غيرهم من الأحزاب السياسية هي نشأتهم من رحم المعاناة واستبسالهم في النضال ضد الدكتاتورية العسكرية. نضال تحول الى محاربة الفساد بعد انتقال بلادهم الى منظومة الديمقراطية، فقادوا الاحتجاجات وتغلغلوا في النقابات العمالية.
أجاد اليساريون التعبير عن ألم شعوبهم وبنوا شعاراتهم السياسية على رفع الحرمان عن الفقراء ومكافحة الفساد واحتكار الشركات للثروات الوطنية، إلا أن تقلدهم السلطة حد من التزامهم بهذه الوعود على الرغم من انكبابهم على إنجاز الكثير من البرامج الاجتماعية. فالحسابات السياسية وضرورة التحالفات جعلت من مكافحة الفساد كمشروع أساسي أمرا صعبا، وما زاد الطين بلة انضمام عدد من السياسيين الفاسدين الى التيار اليساري الذي فتح ذراعيه للتمدد الخارج عن السيطرة وهو ما أوقع عدد من اليساريين التقليديين في عقد الصفقات المشبوهة واستغلال السلطة لمصالح شخصية، وعليه فإن الحزب الموكلة إليه مهمة مكافحة الفساد وملئ السجون بالفاسدين تقاعس عن أداء دوره وبات بحكم تورط بعض قياديّيه شريكا في الآفة التي انهكت اقتصاد بلاده.
ثانياً: على الرغم من التقارب الأيديولوجي بين الأحزاب اليسارية الحاكمة في أميركا اللاتينية، إلا أن التباين بينها كان جليا الى حد نشوء أزمات في العلاقات الاقتصادية تمثلت في خلاف حاد بين البرازيل والأرجنتين أدى الى تراجع كبير في التبادل التجاري، وهنا لم تكن سعادة العماليين البالغة بعد صعود اليمين الأرجنتيني مستغربة، فمساحات التعاون بدت أفضل وأسهل، حقيقة أظهرها الرئيس اليميني المنتخب ماوريسيو ماكري في موقفه المناهض لإقصاء الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف لاعتبارات اقتصادية بحتة. الخلاف نفسه وقع بين اليساريين في الأرجنتين والأوروغواي، الأمر الذي دعا بالرئيس الاشتراكي السابق خوسيه موخيكا إلى التهديد بالخروج من منظمة "مركوسور" بعد فرض الأرجنتين سياسات حمائية حدّت بموجبها من التبادل التجاري مع بلاده.
وعلى الصعيد نفسه لا يمكن إغفال تهديد الرئيس البوليفي إيفو موراليس بفك الشراكة النفطية مع البرازيل اذا ما استمرت شركة بتروبراس في استغلالها غير العادل لنفط بلاده، ولا يمكن إغفال قرار التخلي عن رئيس الباراغواي الأسبق القس فرناندو لوغو الذي ترك وحيدا أمام تحشيد الداخل والخارج وهو الذي ناشد مرارا البرازيل والأرجنتين إسداء بلاده بعضا من حقوقها كبدل عن استخدام السدود المائية التي تستفيدان منها لتوليد الطاقة الكهربائية، وصولا إلى الأزمة بين فنزويلا والبيرو، وليس آخرها تخلي كل الحكومات اليسارية المنتجة للغذاء عن فنزويلا في أصعب أزمتها الغذائية. هذه الخلافات أبرزت واقعا سيئا يظهر اللاإنسجام بين التيارات اليسارية، بل يصل توصيف بعض العلاقات بالعدائية.
ثالثاً: اذا ما استثنينا التجربة الفنزويلية في إطلاق محطة "تيلي سور"، بقيت كل الدول اليسارية في أميركا اللاتينية خارج التأثير الإعلامي ما أسدى بخدمة كبيرة إلى خصومها في الداخل والخارج. تربع اليمين على عرش الإعلام وتحكم في لعبة الرأي العام وبات اليساريون كالدمى الصامتة، ينجزون في العلاقات الدولية وفتح الأبواب أمام الأسواق البرازيلية.
أعلنوا مواقفهم السياسية المناهضة للنظام الاستعماري العالمي، ناصروا القضايا العادلة وتطور خطابهم السيادي إلى حد المطالبة في تمثيل مستحق داخل الأروقة الدولية وخاصة مجلس الأمن، إلا أن هذه الإنجازات والمواقف لم تصرف في الداخل الذي بقي متأثرا بالتوجهات الإعلامية المعادية لليسار والذي غيّب كل النجاحات على الصعيد الدولي وحولها إلى تهمة حين صور للرأي العام اللاتيني أن حكوماته تتجه إلى محور دكتاتوري يجمعها مع الصين وروسيا وإيران وتناهض التحرر والمدنية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. لم يكن صعبا إيجاد ما يكفي من المواد الإعلامية لتشويه كل الإنجازات بل إلى دب الرعب في قلوب الناس والحديث عن مغامرات "شيوعية" قد تودي بالمنطقة إلى الهاوية.
رابعاً: لم تراع السياسات الاقتصادية التي اتبعها اليسار الحاجة الماسة إلى إنشاء بنية إقتصادية بعيدة الأمد، بل اعتمدت على البرامج الرعائية المؤقتة التي حلت جزءا من مشكلة الفقر والبطالة من دون أن تضمن استمراريتها أو على الأقل الحفاظ على إنجازاتها. فالبرازيل مثلا أطلقت برامج مهمة كالإعانة العائلية المتمثلة براتب متواضع تتقاضاه الأسر الفقيرة شهريا و"بيتي حياتي" الذي يسعى إلى تأمين منازل للمشردين، وحذت فنزويلا حذو جارتها فأطلقت أكبر مشروع إسكاني حيث آوى مليون عائلة، بالإضافة إلى المشاريع الصحية، عبر استدعاء أطباء كوبيين لتغطية العجز الطبي. أما الأرجنتين واحتيالاً على أزمتها أوصدت حدودها أمام الاستيراد وخفضت من سعر صرف الدولار الأميركي مقابل البيسو في السوق الداخلية بينما كان سعر الصرف في الخارج يتضاعف، وضعت الحكومة الأرجنتينية ميزانية هائلة لدعم المواد الغذائية وتحسين الرواتب لكسب الطبقات العمالية، إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتفادي مضاعفات الأزمة الإقتصادية.
يذهب الخبراء الاقتصاديون إلى توصيف فتح الأسواق اللاتينية أمام الأسواق العالمية وخصوصا الصينية بالخطأ الاستراتيجي، فالمنتوجات الصينية التي أغرقت الأسواق اللاتينية حدّت من إنتاجها المحلي وجعلتها منطقة استهلاكية بعدما كانت تعتمد على الصناعة والإنتاج. ويرى الخبراء بأن انضمام البرازيل مثلا إلى منظمة البريكس أعطاها ثقلا سياسيا معنويا لكنه أرهقها إقتصاديا، فالرهان على وعود الحلفاء كان مجرد قراءة مبسطة للواقع العالمي الذي باتت قواه الأساسية تتعامل بواقعية سياسية تتيح لها تجاوز الاعتبارات الإيديولوجية، فالصين مثلا التي راهن اللاتينيون على دعمها كانت ترتب ملفاتها تبعا لمصالحها الاقتصادية وأهمها حفظ الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية، أما الشريك الروسي فقد عبر فوق حلفائه وفتح بدوره شراكة سياسية مع الولايات المتحدة الأميركية مما أفضى جوا من الإحباط اللاتيني الذي أحس بأن حلفائه استفادوا من القدرة الاستهلاكية لبلادهم واقتصر دعمهم على وعود ومشاريع بقيت حتى الساعة حبرا على ورق.
إذا كانت هذه الأسباب التي استعرضناها هي التي ساهمت في إخفاق المشروع اليساري فإن استخدامها من قبل خصوم اليسار في الخارج وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية يعد أمرا طبيعيا، فالولايات المتحدة التي أدركت حجم خسارتها في فقدان حديقتها الخلفية وتنامي الشعور المعادي لسياستها لم تغفُ لحظة واحدة عن متابعة مجريات المرحلة الجديدة في أميركا اللاتينية حيث قادت صراعا باردا تمثل في ربط علاقات وثيقة مع التيارات المعارضة وإعطائهم إرشادات ونصائح ومتابعة إعلامية ولوجستية. نجح الخارج في استدراج اليسار عبر مراوغته بسياسة الاعتراف وأحيانا الامتداح، وانقض عليه في لحظة الضعف، فأنهك الثورة البوليفارية في فنزويلا عبر حرب اقتصادية تجويعية مستغلا ركاكة الآداء السياسي والفساد داخل الحزب الإشتراكي. أسقط اليسار الأرجنتيني بنفس السلاح مضافا إليه التعبئة الإعلامية التي قادتها شبكة "كلارين" النافذة واستطاعت محو إنجازات الرئيسة الإشتراكية التي أنقذت البلاد من براثن الإفلاس. ارتدادات التراجع اليساري أصابت البرازيل التي شهدت إخراجا مشغولا بتقنية عالية، حملة قضائية واسعة في أدق الأوقات وأصعبها مرفقة بحملة إعلامية واسعة وصفقات سياسية خرقت قاعدة التحالف بين اليساريين والأحزاب الشريكة ووضعت بلاد السامبا أمام انقسام اجتماعي حاد سيفضي بالضرورة في أحسن الأحوال إلى إضعاف اليساريين وفي أسوئها ألى القضاء عليه لفترة زمنية طويلة.
لعل الأوروغواي وحدها عاشت التجربة من دون إخفاقات استراتيجية بفعل الرئيس الأسطورة خوسية موخيكا الذي بات رمزا عالميا للقائد المتقشف والحريص على أموال الدولة، فسلم خلفه تجربة ناجحة مبنية على إيمان الناس بصدق برنامجها على الرغم من الأزمات الاقتصادية. أما جارتها بوليفيا فقد أعطت إشارات فرملة حلم إيفو موراليس بعد رفض معظم البوليفيين إعطاءه فترة حكم ثالثة وبالتالي قد ينضم هذا البلد الفقير إلى جواره في الخروج من تجربة اليسار إلى خيارات قد يجدها أقرب إلى تحقيق مطالبه.
لم تكن الحرب الاقتصادية ولا الخيارات السياسية الخارجية هي السبب الرئيسي في إخفاق اليسار اللاتيني، فالإشتراكيون مسؤولون تماما عن الفشل في تحقيق آمال الناس وإعطاء خصومهم الذرائع الكافية لتحويل الرأي العام من مساند بالمطلق إلى محبط ويائس. قد لا تكون الأحزاب الانتهازية أفضل حالا من اليسار وهو بالتأكيد، وعلى الرغم من أخطائه، أعطى ما لم تعطه هذه الأحزاب .إلا أن الواقع السياسي لا يعترف بضياع الفرص التي لو أحسن اليساريون استخدامها لثبتوا حكمهم وورّثوه إلى أبنائهم.