ماذا بقي من ثورة يوليو المصرية؟

بما أننا نعيش هذه الأيام أجواء الذكرى الرابعة والستين لثورة يوليو/تموز ١٩٥٢، فسنحاول هنا الإجابة عن سؤال يتردد كثيرا في العقود الأربعة الأخيرة، وقد طرح للمرة الأولى عشية الهزيمة في يونيو/حزيران ١٩٦٧، ثم راج كثيرا بعد أن تغير اتجاه الدولة المصرية استراتيجيا بخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي واقعيا في يناير/كانون ثاني ١٩٧٤ ثم رسميا في مارس/آذار ١٩٧٩، وسياسة الانفتاح الاقتصادي والتقارب السياسي مع الولايات المتحدة التي بدأها الرئيس أنور السادات واستمرت إلى اليوم. ماذا بقي من ثورة يوليو اليوم؟

تحول السبعينيات ما تبقى من آثار يوليو والحقبة الناصرية
مشرقٌ كسطوع شمسه تموز! بهيجٌ بلون بنفسجه! عطرٌ كبشاير المانجو! وملتهب كحرارة الدماء الحرة التي جرت فيه! ولو أنصفنا نحن العرب لأطلقنا عليه "تموز الأبيض" لما يحمله من ذكريات عظيمة مقابل ذكريات أليمة أهلت أيلول لوصف "أيلول الأسود"!  تموز كان في تاريخنا المعاصر شهر تثور فيه البنادق لتصنع تغييرات محورية في مسيرة التحرر العربي وفي سياق الصراع العربي-الإسرائيلي! بداية من ثورة يوليو في مصر، مرورا بحركة تموز في العراق، وختاما بحرب تموز التي غيرت معايير الصراع في ٢٠٠٦. 
بما أننا نعيش هذه الأيام أجواء الذكرى الرابعة والستين لثورة يوليو/تموز ١٩٥٢، فسنحاول هنا الإجابة عن سؤال يتردد كثيرا في العقود الأربعة الأخيرة، وقد طرح للمرة الأولى عشية الهزيمة في يونيو/حزيران ١٩٦٧، ثم راج كثيرا بعد أن تغير اتجاه الدولة المصرية استراتيجيا بخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي واقعيا في يناير/كانون ثاني ١٩٧٤ ثم رسميا في مارس/آذار ١٩٧٩، وسياسة الانفتاح الاقتصادي والتقارب السياسي مع الولايات المتحدة التي بدأها الرئيس أنور السادات واستمرت إلى اليوم. ماذا بقي من ثورة يوليو اليوم؟ 
حتى يظهر لمن لا يمعن النظر أن تحول السبعينيات قد طمس ما تبقى من آثار يوليو والحقبة الناصرية، لكن نظرة كاشفة يمكنها النفاذ خلف هذا لتتبين حقيقة الخلط الذي وقعت فيه النظرة العابرة؛ الخلط بين ما تبقى من يوليو وما تبقى من الردة علي يوليو. وأن أسوء ما ننقم عليه في واقعنا كان نتاجا مباشرا للردة عليها. لأنها لم تكن ردة على خط يوليو ولا على شخص "عبد الناصر" قدر ما كانت ردة على مشروع الأمن القومي العربي ذاته. حتى نعرف ما تبقى من يوليو (على الصعيد العربي تحديدا بما أنه نقطة بحثنا) يجب أولا أن نستعرض ما حققته يوليو ابتداء لنتقصى بعد ذلك ما بقي منه. 

فقد قام مشروع الأمن القومي العربي الذي بلورته وتبنته ثورة يوليو منذ بداياتها وحتى وفاة قائدها على أربعة أركان:    
1-  حالة التناقض المباشر مع العدو الصهيوني ومع قوى الاستعمار والهيمنة اليورو-أمريكية والرجعية العربية المتحالفة معها، وتحويل المشروع إلى واقع يعيشه مائة مليون عربي وقتذاك، بتوظيف كل آليات بناء الرأي العام المتاحة في زمانها. ومن يرجع إلى ملامح الرأي العام العربي كما تتجلى في الصحافة والفن والأدب في مطلع السبعينيات يجد تجليا نادر المثال لنجاح التجربة.  
2- التعامل المبكر مع الصراعات العربية-العربية التي يهدف الاستعمار لإحلالها محل الصراع العربي الإسرائيلي (أحداث أيلول الأسود، والتدخل لمنع احتلال عراق عبد الكريم القاسم للكويت مثالاً.
3-تحقيق الاستقلال الاقتصادي كحجر زاوية في الاستقلال السياسي، وتحقيق التنمية بآليات قادرة على تحمل أعباء المعركة. (القطاع العام المصري والحروب الأربعة مثالا)، والعدالة الاجتماعية كصفة جوهرية في إعداد المجتمع للمعركة.     
4-تشكيل دوائر تحالفات دولية مقابلة لدائرة تحالفات العدو الصهيوني (الاتحاد السوفيتي ودول عدم الانحياز والمنظمات الآفرو-آسيوية مثالا) قد يطول الحديث حول ما حققته يوليو في تلك الركائز، ولكن بما أننا وضعنا هدفا لمبحثنا هو تقصي ما بقي من يوليو، فلنشرع الآن في الإجابة عن سؤال معكوس؛ ما كان حالنا اليوم لو لم تقم ثورة يوليو بلحاظ تلك الركائز الأربعة؟ أولا؛ العداء للكيان الصهيوني لو لم تقم يوليو. 

حتى يتجلى لنا الدور الذي قامت به يوليو في هيكلة الوعي العربي تجاه القضية المحورية، سيكون علينا أن نطالع كتاب الرائع الراحل "محمود عوض" بعنوان "وعليكم السلام"، فهو أفضل من وفى هذا الموضوع حقه. وسنعرض هنا مقتطفات دالة منه:
1- في عشرينيات القرن الماضي كان "ألبير موصيري" يصدر من القاهرة جريدة "إسرائيل" التي جعلت شخصيتها المحورية هي "تيودور هيرتزل" وخصصت صفحاتها لتمجيده ونشر أفكاره.   
 2- في ١٧ مارس/آذار ١٩٢٣ نشرت جريدة المقطم القاهرية مقالا جاء فيه نصا "أن الصراع في فلسطين هو نتيجة ظروف عارضة، لأن فلسطين محكوم عليها بأن تكون وطنا مشتركا بين الشعبين الشقيقين اليهودي والعربي سواء رضيا أم أبيا" ونشرت في أول يونيو/حزيران من نفس العام مقالا تنظر فيه لضرورة استمرار الاحتلال البريطاني كحكم عادل بين العرب واليهود.
3- في إبريل/نيسان ١٩٢٣ قبلت الحكومة المصرية دعوة من المنظمة الصهيونية العالمية لحضور حفل افتتاح الجامعة العبرية بالقدس وانتدبت "أحمد لطفي السيد بك" مدير جامعة القاهرة لحضور الافتتاح، وكتب "لطفي السيد" بعد عودته بيانا يبرر فيه زيارته ويقول بأنه زار بعدها المجلس الإسلامي الأعلى في القدس بعد زيارة الجامعة العبرية والحفل المنظم من المنظمة الصهيونية رسمياً.   
 4- في إبريل ١٩٢٥ زار وزير الخارجية البريطاني السابق "جيمس بلفور" القاهرة بدعوة من رئيس الوزراء "أحمد زيور باشا"، وألقي القبض على فلسطينيين مقيمين في مصر ومصريين خرجوا في تظاهرة محدودة للاعتراض على زيارته. وزار "حاييم وايزمان" القاهرة في نفس العام في زيارة رسمية وهو يومذاك رئيس المنظمة الصهيونية العالمية.    
5- قبل وبعد حرب فلسطين كانت هناك أصوات بحجم "النقراشي باشا" رئيس الوزراء ترفض دخول مصر في الحرب ونشرت مقالات عديدة تقول بأنها حرب ليست لمصر فيها ناقة أو جمل (راجع المصدر السابق)، حتى كتب عملاق بحجم "عباس العقاد" مقالا عام ١٩٤٩ بعنوان "يجب أن تكون سياستنا مصرية لا عربية".
6- حوارات الساسة من أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين مع وزير الخارجية الإسرائيلي "إلياهو ساسون"، والمنشورة تفصيلا في كتاب محمد حسين هيكل باشا "مذكرات في السياسة المصرية". وموقف الدولة المصرية الذي عبر عنه "إسماعيل صدقي باشا" رئيس الوزراء في ١٩٤٦، حول استعداده للقبول بتقسيم فلسطين مقابل دعم اليهود لمفاوضات الجلاء البريطاني عن مصر.   

فلو كان هذا هو الحال في وقت بداية القضية العربية، ولو غاب الزخم الذي منحته ثورة يوليو للفكرة القومية ولقضية العرب المحورية، وبالتالي لو لم تقم الحروب الأربعة بين مصر والكيان الغاصب، يجوز لنا وقتئذ أن نتصور مصر اليوم كركيزة أساسية من ركائز الرجعية العربية. ليس هذا وحسب، بل كانت مؤهلة لقيادة معسكر الرجعية العربية بما لديها من إمكانات يفتقر لها محور الرجعية العربية اليوم بحكم ظروفه القطرية، وهي الثقل السكاني والثقل الحضاري والثقافي. 
فلو كنا ننزعج اليوم من نفوذ اقتصادي تمارسه الرجعية العربية على مصر، فهل كان بطاقة القضية العربية مواجهة مصر وهي تتصدر معسكر الرجعية العربية؟ ثانيا؛ التعامل المبكر مع الصراعات العربية-العربية لو لم تقم يوليو. العراق وسوريا مثالا اليوم ونحن نعاني عربيا بعد ستة وعشرين عاما من توابع زلزال غزو العراق للكويت في أغسطس/آب ١٩٩٠، والتي جعلت النفوذ العسكري الأميركي في الشرق العربي مباشراً وفجاً كما لم يكن قبلها، فهل يمكننا تصور الحال اليوم لو وقع هذا الغزو قبل موعده بثلاثين عاما خلال أزمة العراق والكويت عام ١٩٦١؟ والتي وصلت لحشد القوات العراقية على حدود الكويت وإعلان "قاسم" نيته ضم الكويت؟ ووصول قوات بريطانية لدعم الكويت بالفعل (٥٠٠٠ جندي)، قبل تدخل الجامعة العربية بقيادة مصر وإحلال قوات عربية محل القوات البريطانية بعد أن طلبت حكومة الكويت خروجها؟ 
اليوم ونحن نعاني عربياً في ظل الأزمة السورية، فهل نحن على وعي تاريخي بوجود خطة قديمة لكسر سوريا في ١٩٥٧، وهي خطة ظلت قيد التخرصات حتى نشرتها الجارديان نقلاً عن المخابرات البريطانية في ٢٠٠٤، وشملت الخطة إثارة قلاقل داخلية بالتعاون مع الإخوان في سوريا، والتخلص من ثلاث شخصيات قومية سورية هي "عبد الحميد السراج" و"خالد بكداش" و"عفيف البرزي". 
فضلاً عن موضوع الحشود التركية المعروف تاريخيا! لقد نشرت الصحافة المصرية وقتذاك تحليلات مصرية حول تلك الأزمة في إطار تبرير القفز إلى وحدة كان عبد الناصر نفسه يراها سابقة لأوانها! فظل خصوم يوليو يقولون بأنها أساطير حتى أقر بها الخصم.
فلو كنا اليوم ندرك خطر الأزمة السورية الراهنة على القضية العربية، فهل لنا أن نتصور أزمة مماثلة قبل ستين عاما وحال القضية العربية لو قدر لها النجاح؟ نحن لا نتحدث هنا عن أثر الفراشة! فكل حدث تاريخي يمكننا تصور تداعيات لا نهائية له لو تغير، لكننا هنا نتحدث عن آثار مباشرة لو غاب دور يوليو لنفهم ما تبقى منها، ما تبقى من يوليو تأسيسا على ما سبق هو بوضوح وسلاسة ما تبقى من القضية العربية ذاتها! وستبقى يوليو ويبقى أثرها ما بقيت القضية الأساس التي تبنتها وبلورتها. أما الوهن العربي الراهن فهو ما تبقى من الردة على يوليو لو أردنا إنصافا. سيعترض أحد القراء الكرام بقوله؛ "لكن يوليو لم تؤسس لسياسة عربية تعيش بعد وفاة مؤسسها" وسيرمي بالقول الرائج وغير الدقيق عن السياسة الغربية التي لا تتغير بتغير الأفراد، وسنجيبه كالتالي؛ لو حاولت المطابقة بين أفكار ومباديء الآباء الأوائل المؤسسين للمجتمع الأمريكي وبين الواقع الأمريكي اليوم فلن تجد تشابها كبيرا، ولو طابقت الواقع الصيني اليوم بأفكار ماو تسي دونج فلن تجد تطابقا! لهذا فالقول بالأنظمة المستمرة بعد وفاة الآباء الأوائل في كل مجتمع وفي كل فكر هو قول لم يختبر إلى حد بعيد! لا يستثنى من هذا حتى الأنبياء بما لهم من عصمة وكمالات. فتأمل قوله تعالى "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ"!! في الجزء المقبل من هذا المقال سنتناول البعد الاقتصادي-الاجتماعي والبعد الدولي في سياسة دولة يوليو ومؤسسها لندرك ما تبقى منهما اليوم، وما لهما من دور في مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي. فإلى لقاء قريب لو أحيانا الله.