"النصرة" جيش الأميركيين في سوريا

بعد فشل محاولاتهم بناء قوة عسكرية "معتدلة"، خلال السنوات الماضية، حاول الأميركيون توظيف الجماعات "المعتدلة"، ذات النفوذ الميداني، لكنهم لم يجدوا سوى خيارات سيئة، ومتصارعة، يتشكل معظمها من عناصر أجنبية متفلتة. وبدلاً من بذل المال والجهد، لتصنيع معارضة مسلحة غير مضمونة الولاء والفعالية، يجد الأميركيون الحل في "النصرة"، يعملون على تحويلها إلى حليف، ومساعدتها على ملء كل فراغ يتركه "داعش"، وكل منطقة يخسرها الجيش السوري وحلفاؤه.

الأميركيون لا يريدون إلغاء داعش بل تحجيمه ولا يسعون إلى القضاء على النصرة
في سعيها لإعادة ترتيب خطوط الصراع في سوريا، يبدو لواشنطن، أن التوجه نحو الاستثمار الميداني في "جبهة النصرة" (جبهة فتح الشام)، الخيار الأنسب، للحد من حالة الانحسار التي تعاني منها الجماعات المسلحة أمام محور المقاومة، ولمنع "داعش" من التمدد، ولتأمين مناطق سيطرة تعزز نفوذها على الأرض. الوقائع تشير إلى أن "النصرة" أصبحت ركيزة مهمة لواشنطن وحلفائها، يجهزونها لتصبح قوتهم البرية في مواجهة الجيش السوري وحلفائه، خصوصاً أنها القوة الرئيسية في القتال ضد هذا المحور، وأكثر جماعات التكفير تأثيراً في الصراع. الغارات الجوية وحدها، لا تكفي لتمكين الأميركيين من استثمار الوقائع الميدانية، سياسياً وفي المفاوضات، هم بحاجة لقوة ميدانية قادرة على الاستمرار، وتحقيق إنجازات عسكرية، وتأمين حواضن شعبية، إضافة إلى المقبولية المحلية والإقليمية والدولية.

تتصارع في سوريا أربع قوى أساسية. الجيش السوري، وفصائل كردية، وتنظيم "داعش"، وخليط من الجماعات المتطرفة، أبرزها "النصرة" و"أحرار الشام".

في المرحلة السابقة، بدت الفصائل الكردية، قوة الأميركيين البرية، يستخدمونها في منع "داعش" من التمدد، وفي الضغط على تركيا، وفي تعزيز مشروع تقسيم سوريا إلى أقاليم. الضربة التي تلقاها الكرد أخيراً، حدت من قدرتهم على خدمة هذه الأهداف، وتراجعت حاجة واشنطن إليهم، لأسباب أهمها:

1-    عدم رغبة الكرد في مواجهة محور المقاومة، والاكتفاء برسم حدود إقليمهم، مستفيدين من الفوضى الأمنية والسياسية في البلاد.

2-    العلاقة بين الكرد وواشنطن، لم تكن دائماً إيجابية. الجانبان يعتبران تعاونهما في سوريا، مرحلي تكتيكي ومتغير، لا يرقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي العميق.

3-    الأميركيون لا يثقون بدوافع الفصائل الكردية، خصوصاً، تلك المشاركة من خارج سوريا. في المقابل، يدرك الكرد استعداد الأميركي الدائم لبيع الورقة الكردية، أو المساومة عليها. فهي ورقة تثير حساسية الجميع في المنطقة، أخصاماً وحلفاء.

بعد فشل محاولاتهم بناء قوة عسكرية "معتدلة"، خلال السنوات الماضية، حاول الأميركيون توظيف الجماعات "المعتدلة"، ذات النفوذ الميداني، لكنهم لم يجدوا سوى خيارات سيئة، ومتصارعة، يتشكل معظمها من عناصر أجنبية متفلتة. وبدلاً من بذل المال والجهد، لتصنيع معارضة مسلحة غير مضمونة الولاء والفعالية، يجد الأميركيون الحل في "النصرة"، يعملون على تحويلها إلى حليف، ومساعدتها على ملء كل فراغ يتركه "داعش"، وكل منطقة يخسرها الجيش السوري وحلفاؤه. ويصرون على رفض الفصل بينها وبين الجماعات "المعتدلة"، ويرفضون السماح بتشريع ضربها من قبل القوى الدولية الناشطة عسكرياً في سوريا. ورغم تصنيفها منظمة إرهابية، بقرار من مجلس الأمن الدولي، يعمل الأميركيون، عبر الأتراك والسعوديين، على تسويقها، إعلامياً وسياسياً، كجماعة "معتدلة"، لتكريسها قوة أساسية مقابل محور المقاومة، وحتى ضد الفصائل الموالية لها ولقوى إقليمية حليفة. "فالنصرة" تهاجم الجماعات المدعومة من واشنطن وحلفائها، للقضاء على المنافسين، وليس رفضاً للولايات المتحدة.

مقارنة بالأكراد و"داعش"، وبقية الجماعات المسلحة، تبدو "النصر"، أميركياً، أهون الشرور، والتقارب معها، كما يرى الأدميرال الأميركي جيمس ستافردس، شر لا بد منه، معتمداً على سابقة تاريخية، هي التحالف مع الاتحاد السوفييتي، بقيادة ستالين، خلال الحرب العالمية الثانية، رغم التناقض والخلاف الجذريين، عقائدياً وسياسياً معه. يعتبر الأميركيون التقارب مع "النصرة" خياراً واقعياً، في ظل عدم ثبات البيئة السياسية، وتغير التحالفات المحلية والإقليمية والدولية. "النصرة" أظهرت منذ تأسيسها، أنها أكثر صبراً وذكاءً من بقية جماعات التكفير، وعلى رأسها "داعش". فقد استكملت مسارها بفك ارتباطها "بالقاعدة" (شكلياً)، بعدما اندمجت بالجماعات "المعتدلة"، حتى باتت اللاعب الرئيس. وتبنت خطاباً ساسياً "معتدلاً"، إلى حد أن أميرها أبو محمد الجولاني، نفى وجود خلافات مع المسيحيين والعلويين، وحتى مع الغربيين، الذين تجنبت استهدافهم. كما نسجت علاقات مع قوى المعارضة، وأعلنت أن النظام السوري وحلفاءه، عدواً وحيداً. الجبهة تجنبت تنفيذ أي عمليات ضد الإسرائيليين، وهي المسيطرة على جزء كبير من الحدود مع الجولان المحتل، بل إن جرحاها يعالجون في المشافي الإسرائيلية، وتحظى بدعم لوجستي وعسكري ميداني من الجيش الإسرائيلي، في القنيطرة وجنوب سوريا، ضد محور المقاومة. ويميزها أنها أكثر الجماعات المسلحة المتطرفة سوريةً، والأكثر قدرة على التوسع ميدانياً وشعبياً.

لا تبدي الولايات المتحدة اعتراضات جدية على تعاون حلفائها مع النصرة ودعمها. فالجبهة تتجه اليوم نحو هدفين، تحتاجهما واشنطن، لفرض وقائع ميدانية وسياسية جديدة في سوريا:

الأول، اللجوء إلى الحوار، أو إلى القوة العسكرية، لدمج الجماعات المسلحة، بما فيها "أحرار الشام" و"الزنكي"، في جبهة واحدة، تحت قيادة موحدة، ستحسم في النهاية لصالح "النصرة"، الأقدر على استقطاب الفصائل الصغيرة المتشددة.

ثانياً، تأسيس "إمارة إسلامية" في منطقة إدلب، تنافس دولة داعش، وتشكل بديلاً عنها، تتحول إلى ملجأ لعناصر الجماعات المسلحة، التي تواجه حتمية الصدام في ما بينها، في ظل صعوبة استمرار التحالفات والصراعات القائمة.

يعتقد الأميركيون أن الواقعية السياسية، قد تتحول إلى مصيدة لهم في سوريا، فليجأون إلى ما يصفونه "بالسياسة الجيدة" الأقدر على خدم مصالحهم، فيواصلون استخدام الإرهاب سلاحاً أساسياً في سياساتهم الخارجية. هم لا يرمون إلى إلغاء "داعش"، بل إلى تحجيمه. ولا يسعون إلى القضاء على "النصرة"، أو إلى تحويله "صحوات"، بل يعملون على احتوائه، وتسويقه كفصيل معتدل، بوقوفه في وجه "داعش" وبقتاله "بثبات" ضد النظام السوري، وتشكيله رأس حربة في مواجهة "حزب الله". لكن كل ما سبق، لن يمنع الأميركيين، سواء سقط النظام السوري ام بقي، من إعادة تدوير موقفهم من "النصرة" ووصمها بالإرهاب، وتحويلها إلى هدف يشرعن حروبها، متى اقتضت المصلحة.