أميركا: الحروب الفاشلة.. والتاريخ التآمري؟
في كلمة هي من أروع الكلمات التي قالها المغتال على يد المخابرات الأميركية الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق. هي: " إن مَن يتعامل مع أميركا كمن يتعامل مع الفحم". فأميركا تضع لك الورود سياسياً وتدق أكبر مساميرها في روح السياسة التي تنتهجها، إنها تتعامل مع الدول بمنطق الاغتيال السياسي المُسبق حتى وإن ظهرت أنها تحتضن أفكارك إلى حد العشق ، ولكن كلما رأت أن مصلحتها فيك انتهت تتخلّى عنك.. هذا، إن لم تقم بتصفيتك ، فعلت هذا مع شاه إيران، ثم مع الجنرال ضياء الحق، ثم مع صدّام حسين، ثم مع برويز مشرّف ، وأخيراً مع حسني مبارك. وقريباً مع حكّام الخليج.
هذا المنطق الاستخفافي هو من أولويات السياسة الأميركية، ومن القواعد التي رسخّت فيها منذ أمد بعيد، ورغم الفشل الذي أصابها ويصيبها كل مرة فإنها لا تعترف وتواصل البحث عن مساحة أخرى في مكان آخر تنغمس فيها كالشيطان.
لكن، الـتاريخ وان كان ثابتاً في أحكامه فمتغيّرات الواقع الدولي غير ذلك، متغيّرات بما صاحبها أو يصاحبها من أحداث تدفع بأمريكا إلى الاستمرار في المواجهة بالبديل العسكري غير المباشر (أدواتها في المنطقة) وأهمها "داعش"، وأحياناً بتوجيه قاعدتها الأمامية إسرائيل إلى القيام به، لكن هذا البديل أصيب مؤخراً بانتكاسة -لم يستسغها العقل الأميركي - في سوريا وفي أوكرانيا ما أدخل نوعاً من الفوضى داخل دوائر صنع القرار السياسي فيها، فكان الاختلاف وربما التطاحن بين ثلاث مؤسسات رئيسية فيها على الأقل صادماً لقوى الداخل والخارج وهي الخارجية والدفاع والمخابرات..
وربما هذا هو أحد الأسباب في ظهور نجم" دولاند ترامب "كأحد صانعي الحدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، وربما أيضاً سيكون وجهاً آخر نسبياً لهذا التسلسل للتاريخ التآمري، بالجنوح نحو سياسة رفض منطق الاعتراف بالآخر ولو كان مثل دولة صغيرة كقطر، دولة تقوم على ضجيج النفط والغاز.
ولعلّ الأحداث القادمة بداية من 20 كانون الثاني/ يناير القادم تاريخ استلام "دولاند ترامب" الرئاسة سيضع العالم كلية أمام تطوّرات أخرى، فيها من الأمل أقل بكثير مما يساوي الحدث الذي أحدثه "ترامب"من الخيبة لدى الرافضين له ، وما يؤكّد ذلك مقولة ضياء الحق.المشار إليها سابقا.
نجاح "دولاند ترامب" وخروج "باراك أوباما" من المسرح السياسي، لا يعني في الإيديولوجية الأميركية إلا بداية تآمر بتاريخ آخر بنفس الخطى والتوافق، والذين يعتقدون في "ترامب" التغيير لصالح البشرية يفتقدون للرؤية الواضحة، تلك الرؤية التي دوّنت التاريخ الأمريكي بالتاريخ الدموي من البداية. وهذا ليس انسياقاً خارجاً عن تاريخ الإمبراطوريات السابقة..
هذا جانب ،الجانب الآخر هو أنّ المؤسسات العسكرية والسياسية الأميركية بفروعها المتشعّبة والمرتبطة بالفكر الأيديولوجي الإسرائيلي هي الوجه الوحيد، إن للسياسة الداخلية أو للسياسة الخارجية، أما ساكنو البيت الأبيض فإنهم مجرّد وسائط إعلامية لهذه المؤسسات، وإذا نظرنا إلى "باراك أوباما" من حيث تاريخ بشرته حتما يجب إدراك جوهر الاختلاف بين منطق التاريخ الذي يتحكّم في السياسة الأميركية ومنطق مبدأ التغيير الذي أنشده أوباما.
صحيح أن هناك إجماعاً أميركياً على التغيير وبسببه نجح" باراك أوباما"في الانتخابات لكن أيّ تغيير، داخلي أم خارجي، سياسي أم اقتصادي..؟ فالشعب الأميركي لا يهمه أصلاً المجال السياسي، بل تهمه الحياة اليومية ومنابعها، فالرفاهية أساس نظرة المجتمع الأميركي، ومن هنا فإن التغيير في عهد "ترامب" لن يكون إلاّ من هذا الاتجاه، التخفيف من الضرائب والالتزام بالرعاية الصحية والاجتماعية للمهمّشين اجتماعياً وحتى هذه القضية تحتاج إلى رؤية متغيّرة من رؤى سابقة محفورة في وجدان النُخب الأميركية فيها من العنصرية حيّز مهم، فهناك البعض من الذين يصنعون لأنفسهم الامتياز رؤى ثابتة، وهناك السود الذين ما زالت الأغلبية فيهم تعيش على الهامش ويرون أنهم خارج السياق العام للسياسة الأمريكية، وبالتالي فإن أية محاولة منه –ترامب - للتقريب بين الطبقتين سيكون واحداً من أهم القضايا التي تجلب إليه وإلى سياسته المخاطر خاصة وأن بوادر النزعات العرقية طافية على السطح وبقوة، بالأمس القريب فقط تمت إعادة إحياء ذكرى المقتول على يدي الشرطة" فيرغسون "، وقد أعادت الذكرى إلى الأذهان مدى هشاشة المجتمع الأميركي، ومع أن "دولاند ترامب" لا ينتمي إلى حزب المحافظين الجدد، إلا أنه مع ذلك يبقى مشدوداً إمّا إلى التاريخ المتآمر عليه، باعتباره تاريخاً قامت على أعمدته الإمبراطورية الأميركية ،وإما إلى تاريخ الوفاق الذي قتل من أجله" "لوثر كينغ... "وفي كلا الحالين هناك مغامرة قد تقذف به إلى الصمت أمام الأحداث، ذلك أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تخرج بسياستها عن منطق البحث عن المصالح الخارجية بواسطة الحروب الخاسرة وعلى حساب الشعب الأمريكي، ولم تأخذ من" فرانكلين روزفلت" مثلاً خطّاً متوازناً بين المصالح الداخلية للأمة الأميركية، والمصالح الأخرى للشعوب عبر القارات الخمس.
هي إذن حروب خاسرة كما يؤكّد " أندرو باسيفيتش..." أن الولايات المتحدة خاضت ما يصل إلى 35 سنة من الحروب في الشرق الأوسط الكبير. فما أسباب هذه الحروب؟ ولماذا لسنا بصدد الفوز بل 30 عاماً من الفشل الأميركي في الشرق الأوسط.." إن منطق الفوضى الخلاّقة بحسب تعبير" الكابران بوش "هو المنطق المحتكَم إليه وإن لم يظهر علناً قبل "بوش،" لكن المشكلة أن كل فريق يحكم وفق رؤية واحدة، رؤية المبدأ المفصلي أي الربح الفاحش كشرط أساسي للحفاظ على التوازن السياسي الداخلي، وهذا هو مبدأ الليبرالية المتوحّشة.
و"باراك أوباما" نفسه رغم ما صرّح به من جامعة القاهرة في بداية عهدته الرئاسية بأنه ضدّ الحروب المباشرة وضدّ سجن "غوانتنامو" لم يتمكّن من الخروج عن الاتجاه العام الذي يحكم التاريخ الأميركي، وحتى وإن أراد الخروج، فقد أعلن بأنه سيغلق إلى الأبد سجن العار" غوانتنامو" ولم يستطع وسوف يخرج من البيت الأبيض والسجن مغلق على مَن فيه فبشرته من الوجهة الأميركية ذات الإحساس المفرط في العنصرية من البيض، ضدّ السود لن تسمح له حتى بالاندماج في الواقع المتغيّر خارج منطق "الرانجاس"، حتى ولو كان حزب الديمقراطيين معه بكامل شرائحه وخطواته الأيديولوجية، فدائماً هناك منطق التخويف، وهو منطق مفبرك، وهناك أيضاً منطق الهروب إلى الأمام أمام التعقيدات السياسية التي تجتاح أميركا من حين إلى آخر ، تعقيدات أدّت إلى أزمة مالية رهيبة أصابت العالم كله فضلاً عن حروب مدمّرة...
فشل" باراك أوباما" في كل شيء وعد به على مدى ثماني سنوات، كما يقول المفكّر الأمريكي" أندرو باسيفيتش" وهو أحد أكبر النقّاد للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط..... "وعد أوباما عند خوضه للسباق الانتخابي بإنهاء الحرب في العراق بطريقة مسؤولة، وتعهّد بكسب الحرب في أفغانستان. والآن سيغادر البيت الأبيض وهو لم يحقّق أياً من هذه الوعود. ولذلك فإننا إذا ما قيّمناه بحسب إدارته للحرب في الشرق الأوسط الكبير فإنه سيحصل على علامة متدنية".
إذن، نحن أمام إشكالية أميركية لا يمكن تجاوزها بالألفاظ، كما لا يمكن فهمها خارج الترسانة النووية الأمريكية، فضلاً عن الأرمادة العسكرية، و "ترامب "ذاته يعلم هذا ومدرك لمدى صعوبة القفز عليه نحو سياسة التغيير لما يمكن وصفه بالتغيير الإيجابي، والذي ينشده العالم، خاصة أمام المتغيرات الحاصلة في روسيا، وموقفها من الأحداث إن في الشرق الأوسط أو في بلاد القوقاز..
نعم قد يهرب حزب الجمهوريين في عهد" دونالد ترامب" باتجاه الاعتراف بروسيا كقوة صاعدة قادرة على إيجاد توازن مهم في العلاقات الدولية،لكن الحزب لوحده لا يكفي فهناك دوائر عدّة تتحكّم في السياسة الخارجية الأميركية بالخصوص بدءاً من مجموعات الظّل، إلى مجموعات اللوبي الاقتصادي ثم المجموعة اليهودية.
ومن المفارقات السياسية لدى الولايات المتحدة وحلفائها أنهم يوهمون العالم بأنهم ، بفرض حصار على روسيا اقتصادياً وحتى تجميد أموالها .. يعزلونها عن العالم وكأن روسيا هي دولة بوكاسا.. ! مع احترامنا المطلق لبوكاسا يظنون ذلك وهماً وهم يعلمون أن روسيا هي التي تحاصرهم ،وقد بدا ذلك في مواقفها الثابتة مع سوريا، تم إنها دولة عظمى واقتصادها أحسن عافية من اقتصاد أوروبا مجتمعة ،وأن اقتصاديات أوروبا تتحكّم فيها روسيا بواسطة الغاز حتى أن خبراء بريطانيين بدأوا يدقّون ناقوس الخطر ويؤكّدون أن ارتفاع الخبز بسب الغاز الروسي سيطال بريطانيا، مؤكداً إن ظلت الأزمة قائمة بين روسيا والغرب، ثم إن روسيا مع مجموعة دول"بريكس" لا تحتاج إلى الغرب إن أراد الغرب إقامة حواجز أمامها فمجموعة "بريكس" هي الأقوى اليوم بما تمثله بشرياً واقتصادياً .. فهل لجأت السياسة الأميركية إلى الضحك على نفسها وعلى العالم أم أنها مجرّد تخمينات تلوّح بها من وراء الأزمة التي خلقتها لها روسيا بإزاحتها عن عرش الهيمنة على العالم وبروز عالم متعدّد الأقطاب..
كل الدلائل تؤكّد أن روسيا بخرقها لجدار السياسة الغربية التي كان يخطّط لها في الثورات الملوّنة لمحاصرتها ، إن روسيا بالتالي هي الآن مفتاح النظام الدولي الجديد وبوابة الإنتاج السياسي الجديد خارج منطقة الهيمنة الأميركية .،وإنها أيضاً تقود العالم من خلال الأزمات الموجّهة غربياً ضدّها ..
الغرب أرادها أزمات لروسيا فإذا هي تعود عليه وببؤس أشد ، لقد خسرت أميركا مصر وهي الحليف الذي كانت تنظر إليه في مرحلة حسنى مبارك وجماعة الإخوان لاحقاً بالحليف الاستراتيجيي لحماية إسرائيل وحماية مصالحها .. وخسرت تركيا بعد أن استدارت تجاه روسيا..وخسرت في شمال إفريقيا بعد أن خرجت تونس من لعبتها وبعد أن عمّت الفوضى في ليبيا والتي شوشّت بقوة على السياسة الأميركية وربما أخرجتها من الممرّات التي كانت تنوي( ترتبيها) فيها قصد استغلال الثروة البترولية والتي كانت مبنية على الإبعاد الكلّي لروسيا من المنطقة بل إن فرنسا نفسها لا تمللك السيولة النقدية لمواجهة الأزمة إن حاولت أن تدخل في الصراع مع روسيا ، يبدو أن لروسيا ومجموعة دول" ببريكس" ما يكفيها في مواجهة ما يمكن أن تنتجه الأزمة الأوكرانية متى ظل النفخ الغربي فيها قائماً.