سيناريوهات رقعة الشطرنج السورية

مع حسم الحرب السورية لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه باستعادة حلب، يدخل الصراع السوري في مستوى جديد من التنافس الدولي، مع غموض يلفّ إمكانية تحقيق أيّ اختراق من دون انخراط مباشر في المعارك.

الجيش السوري في حلب
شكّل الحضور الاستراتيجي الروسي منذ بدايته نقطة تحوّل إقليمية في المعادلة السورية، فقد وَجدت مُعظم القوى المشاركة في الحرب على سوريا نفسها خارج التفاهمات الدولية، فكان الهدف الأول للتدخل ضرب مشروع التقسيم للمنطقة، والذي ارتكب بسببه أردوغان غلطة التلميذ المبتدئ بالسياسة بإسقاط الطائرة الروسية، فانتقل الروس من خانة الاستيعاب إلى خانة المواجهة، وبدأ معها التصعيد الهادف إلى خلق الأجواء المناسبة لجرّ تركيا خارج السرب الأمريكي والأطلسي، عبر سلسلة من الإجراءات الميدانية والحوافز الاقتصادية من أنبوب السيل التركي لمشاريع الطاقة النووية، وأخيراً لإعطائها الدور الأبرز في حل الأزمة السورية على حساب السعودية لإحكام القبضة على داعش والنصرة والتركمان.

ومع حسم الحرب السورية لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه باستعادة حلب، يدخل الصراع السوري في مستوى جديد من التنافس الدولي، مع غموض يلفّ إمكانية تحقيق أيّ اختراق من دون انخراط مباشر في المعارك، لذلك ستُوضع الخيارات الدولية المستقبلية تحت المجهر، فباعتقاد اللاعبين أنهم إزاء فرصة استراتيجية تتمثل بتحسين واقعهم بتكاليف مقبولة يستطيعون تحمّلها نتيجة حال الفوضى التي يمر بها النظام الدولي عموماً، مع وجود هامش للحركة يسمح للاعبين الإقليميين والمحليين بالتحرّك في إطاره، أيّ أن الأمر له علاقة بحسابات استراتيجية لا يدخل في إطارها احتساب مواجهة روسيا لأن ذلك سيجعل تكاليف المواجهة غير مُحتملة وينزع عنها البُعد الربحي المتوقّع.

فالتراجع في مستوى الضغط الإقليمي والدولي ضدّ سوريا من خلال الإيحاء بأن هذه الدول الشريكة في العدوان عليها أوقفت طوفان المجاهدين، وباتت تنشد تسوية سياسية مقبولة لجماعاتها المسلّحة أو مشاركة في محاربة الإرهاب للقضاء على داعش تحديداً يوحي بجو من السلام المقبل، ولكن هذه الدول ستحاول دائماً تنفيذ أجنداتها ومخطّطاتها لناحية تفتيت وتقسيم المنطقة، ومن هنا ستبرز التحالفات الجديدة للدول في ظل التموضع العالمي الجديد وقدوم الرئيس الجديد للبيت الأبيض دونالد ترامب.

فأول الخارجين من الفلك الأمريكي هم الأتراك، فنزهتهم في الباب لمحاولة فرض إقامة منطقة عازلة والسيطرة على أكبر مساحة جغرافية ممكنة، أيقظت المارد البغدادي من سباته لقرع النفير العام لقتال الأتراك أينما وجدوا، فتحوّلت الفُقاعة الإعلامية لحرب حقيقية بعد فترة طويلة من النوم في عسل النفط، حيث لم تناسب طموحات أنقرة الجديدة قادة داعش الذين وجدوا في الحدود التركية نقطة عبور ودخول لعناصرهم وأسلحتهم بموافقة أرداغونية، وشكّلت التحالفات التركية الجديدة مثلثاً جيوسياسياً جديداً في الشرق الأوسط.

كما أدّى ظهور ترجمة فعلية على أرض الواقع للتفاهمات الروسية والإيرانية والتركية في الشمال السوري حالة من القلق، سمحت بتدهور الوضع التركي الأمني، فاغتيال السفير الروسي كاد أن يئد العلاقات التركية الروسية بعد أن شهدت تقدماً بارزاً بتحرير حلب من الإرهابيين، وسلسلة العمليات الإرهابية ستُعيد رسم الجغرافية السياسية وموقع الجماعات المسلّحة في إطار المشروع القادم للمنطقة، لأن محاولات أنقرة لتغطية تمدّدها في العراق وسوريا بما يخدم مصالحها مبنية على تراجع الدور الأمريكي وعملائه ، كما أنها لا تزال تمسك بعض أوراق اللعب المنفردة كجبهة النصرة في إدلب، والجيش الحر والتركمان في الشمال السوري وتضغط بكل ثقلها لتحقيق مخطّطاتها.

ولا تزال تراهن على الباب لتغيير المعادلات لصالحها قبل مؤتمر الأستانة، رغم أن القوات التركية تراوح مكانها في المستنقع السوري من دون أي أمل بدحر داعش منها بالرغم من الكثافة العسكرية، ولكن الاستعجال واجب في المرحلة القادمة لحسم المعركة بفرض "درع الفرات" كقوة استراتيجية عسكرية تقابل تقدّم سوريا وحلفائها في ظل عجز دولي عن فرض أية قرارات سياسية عليهم رغم التفاهمات غير المعلنة حتى تاريخه، فحكومة أنقرة تريد حصّتها من الغنائم عسكرياً وسياسياً.

أما أمريكياً فكل الجهود التي حرّكتها مطامع أدواتها الإقليمية، واستخدمت لتحطيم الجيش العربي السوري وتفكيك الدولة وإسقاط الرئيس انتهت بالفشل، إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة افتتحت تصريحاتها بتشجيع صريح للرئيس بشّار الأسد لقضائه على الإرهاب، وغزل لروسيا بتعيين وزير الخارجية "ريكس تيلرسون" المعروف بعلاقته مع بوتين، حيث ستشكّل استدارتها في بيدق السياسة نقطة تحوّل مبدئية، فما لم تحصل عليه خلال خمس سنوات ونيّف من الحرب ستحاول أن تحصل عليه بالاتفاقات، فالحفاظ على الدور الأميركي في المنطقة يتطلّب مواجهة بمناورات جديدة، لوقف استدارة أردوغان نحو الكرملين، وتحديد وضع الأكراد الراغبين بتأسيس حُكم ذاتي لهم.

فالإدارة الجديدة تسعى إلى الحصول على غلّة ممتازة بالتقرب من روسيا، وحسب ما أفرزته إعادة تموضعها العالمي الراهنة من توجّهات جديدة، تبدو سوريا وكأنها تقع خارج إطار الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي رغم أنها ترخي بظلالها في الرقة عن طريق قوات سوريا الديمقراطية، وتغض النظر عن تحرّكات داعش في الداخل السوري، كما أنها زوّدت المعارضة المسلّحة السورية بمنظومات دفاعٍ جويّ محمولة لإبقاء المنطقة مشتعلة لأطول فترة ممكنة، لتحرّك بيادقها على الرقعة بانتظار أي تغيّر في المربعات يشكل تحقيقاً أوسع لمصالحها، حتى يثبت جسّ النبض بين موسكو وواشنطن على تفاهمات أوسع تحدّد الخيارات المقبلة لجميع الأطراف.

روسيا من جهتها وجّهت عمليات الاستقطاب لتركيا عبر تعزيز مكانتها الإقليمية وطموحاتها الدولية والتهديد بالشبح الكردي ودمجها بأحلاف عالمية تناسب المتغيرات الدولية الجديدة، وعملية الجذب لا تزال مستمرة حتى يقرّر أردوغان على أيّ جانبيه يميل ، فالفترة المقبلة تستلزم الاستفادة من المستجدات الدولية والاعتماد على الحلفاء لا سيما أن المصالح المشتركة عملاقة، لذا وضعت تركيا في خانة البروز مع دعوتها لمؤتمر الأستانة رغم إدراكها أنها لا تمتلك الإرادة الحقيقية لوقف الحرب على سوريا لتعطي للمؤتمر بعداً استراتيجياً مناسباً، قد يحدّد خارطة الطريق للمنطقة، ودور وقوة الأطراف المشاركة في الصراع وخطواتها المستقبلية.

أما الوضع الميداني فبين مد وجزر حيث لا انتصار فعلي حقيقي لأي طرف، ولذا ستبقى عجلة الحرب تُعيد خلق ارتباكات التحوّل بالمسارات حتى تتّضح صورة الميدان العسكري السوري بعيداً عن المؤتمرات الهادفة إلى حل الصراع.