مناطق ترامب "الآمنة " مشروع ملغىً أم مؤجّل؟

إعلان المسؤول في البيت الأبيض أن إدارة الرئيس الأميريكي دونالد ترامب لاتدرس بشكل مكثّف إقامة "مناطق آمنة " في سوريا والتركيز على أن أمراً تنفيذياً يمنح الجيش ثلاثين يوماً لوضع استراتيجية جديدة لهزيمة تنظيم داعش لم يكن قراراً مفاجئاً أو غير متوقّع.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب
كل المُعطيات كانت تشي أن قراراً بإنشاء مثل هذه المناطق في الوقت الراهن يستحيل تنفيذه .ما إن صرّح ترامب في المقابلة  التي أجرتها معه قناة "ABC" الأميريكية بأنه سيقيم "مناطق آمنة" في سوريا لحماية مَن وصفهم بالأشخاص الفارّين من العنف . جاء الردّ من الكرملين أن أميركا لم تنسّق مع روسيا قبل الإعلان عن نيّتها إنشاء مناطق آمنة في سوريا. واعتبرت  موسكو أن على واشنطن التفكير في العواقب المُحتملة لإقامة هذه المناطق. هذه الدعوة قد تعلّل تراجع الرئيس ترامب الذي لايسعى إلى تلغيم علاقاته _خصوصاً في الفترة الحالية _مع الروس عن قراره عزم إنشاء المناطق الآمنة  .


مفهوم المناطق الآمنة يختلف عن العازلة ،إذ يتطلّب ما أعلن عنه ترامب قرار الأمم المتحدة، بيد أن المناطق العازلة تتم بين دولتين تتّفقان على إيجاد منطقة منزوعة السلاح؛ لا تتواجد فيها قوات مسلّحة/ ما يعني أن إيجاد مثل هذه المناطق لن يتم إلا بفرض حظر جوّي  أميريكي يؤدّي إلى اصطدام الطائرات الأميريكية بالروسية في الشمال السوري .


في هذا الاطار، ترامب نفسه وفي خلال السباق الرئاسي كان قد عدّ حماسَ المرشّحة هيلاري كلينتون إقامة منطقة حظر جوّي في سوريا إنما هو مخطّط لإشعال حرب عالمية ثالثة

هل ذِكر ماسبق يعني أن المشروع الأميريكي بإنشاء "مناطق آمنة " في سوريا قد ولّى إلى غير رجعة؟؟

لم يكن سيناريو "المناطق الآمنة" طرحاً جديداً، إذ أثير هذا السيناريو عام 2015 عند إعلان تركيا سعيها إلى إنشاء منطقة عازلة بعمق 89 كيلومتراً وطول 90 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، ولن يتلاشى ..


وبحسب (وول ستريت جورنال) الأمريكية  فإن خلق "مناطق آمنة "في سوريا يحمل في طياته إمكانية اشتراك أكبر للجيش الأمريكي في النزاع الدائر هناك، بما في ذلك استخدام أكثر للقوة الجوية وقوات برية أمريكية أو من الدول الحليفة، وهي خطوة سبق وأن رفضتها وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون". يقول الكابتن في البحرية الأمريكية، جيف دافيس إن وزارة الدفاع  حالياً منوط بها شيء واحد في سوريا ألا وهو إضعاف تنظيم "داعش" وإلحاق الهزيمة به".في الواقع هذا كان من أبرز ما بحثه ترامب مع نظيره الروسي فلايديمير بوتين عبر الاتصال الهاتفي مؤخراً بل وحرص الطرفان على التركيز على تظهيره إعلامياً .فأصدر الكرملين بياناً ، بينما نشر المتحدّث باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، على حسابه في "تويتر" صوَراً تظهر الرئيس الأمريكي في أثناء إجرائه الاتصال الهاتفي مع الرئيس بوتين بحضور أربع شخصيات أساسية من فريق ترامب.


لكن بالرغم من أن ما يُركّز عليه  حالياً يصب أكثره  في خانة  محاربة الإرهاب وإضعاف داعش بحسب ساكن البيت الأبيض الجديد  وإدارته ، لم يلغِ المسؤول الأميريكي الذي لم يكشف عن اسمه ، مشروع إنشاء المناطق الآمنة .فأردف كلامه بالقول "إن فكرة إنشاء المناطق الآمنة ستجري دراستها في الوقت المناسب " .هذه العبارة تفتح الاحتمالات على تعويم الفكرة في ما بعد  لتخدم أكثر من هدف لا يبدأ فقط بالابتزاز المادي لدول الخليج التي من المفترض أن تموّل إنشاء هذه المناطق .ولا ينتهي بأن تكون ورقة سياسية رابحة تحاول أن تساوم عليها حلفاء سوريا .لكن محاولة فرضها واقعاً  يتعداها الى ماهو أخطر.


 نحن لانذيع سراً عندما نقول :إن في السياسة الأميريكية ثوابت لا يغيّرها أيّ رئيس ، بل كي يصل إلى سدّة الرئاسة عليه أن يكون ملتزماً بها (كالعلاقة مثلاً مع الإسرائيلين ومواظبته على دعمهم ، وهو ما يغالي الرئيس الحالي في إظهاره بشتى الوسائل وفي كل المناسبات) . مخطّطات التقسيم أيضاً كانت على مرّ السنين  من تلك الثوابت التي لم تغادر يوماً الطاولات المستديرة في أروقة الإدارات الأميريكية المتعاقبة . فبالرغم من أن الأوليغارشية الحاكمة لن تعود كما هي في عهد ترامب الساعي إلى استبدالها بنموذج لايتمتّع بمواصفاتها التقليدية ، فإن إنشاء مناطق آمنة  يتذرّع ترامب بأنها للتخلّص من موجات اللجوء إلى الغرب قد تكون أكبر  خادم لإعادة إنتاج سايكس-بيكو في سوريا ،قد يتخطّاها إلى دول مجاورة لاحقاً .


إن إعادة فرز المناطق في سوريا من خلال إنشاء مناطق آمنة بدرجة أولى لن يقتصر على الشمال ، بل سيشمل مناطق الجنوب السوري المحاذية للأردن، وخصوصا تلك التي  تسيطر عليها قوات درع الفرات، والمنطقة الخاضعة لسيطرة "الجيش الحر الجبهة الجنوبية" التي تتلقى  دعماً مباشراً من دول عدّة منها الولايات الأميريكية ..


وفي مواجهة كل ذلك تدأب دمشق على مدى سنوات الحرب على محاربة كل مخطط يحاول إعادة التوزيع الديمغرافي في البلاد بهدف تفتتيها إلى كانتونات طائفية ومذهبية لاحقاً، إن كان عبر طرح البعض إقامة مناطق آمنة أو عبر مخطّطات قد لا تنتهي في القريب العاجل . لكن مع استمرار هذا الصراع يحدّق خطر جديد في الأفق حيث يبدأ داعش عمليات إغراق ضواحي الرقة بمياه بحيرة الأسد بغرض التغطية على هروب مسلحيه  من الرقة لنقل ما يُسميه عاصمة خلافته إلى دير الزور بحسب صحيفة (إيزفيستيا) الروسية ..