تعويذة الموت لترامب

القليل من التصريحات من قِبَل أحد المسؤولين الأميركيين لاتهام إحدى الدول بالفساد أو قمع الحريات أو امتلاك أسلحة أو دعم الإرهابيين أو الخروج عن شرعية العم سام كانت سبباً لتقوم الدنيا ولا تقعد، وتسنّ الأقلام لتقديم الحجج الغوغائية للتلاعب بمصير ملايين البشر في مختلف أنحاء العالم وتسخّر لذلك كل الإمكانيات المادية والتقنية وخاصة إذا كانت بمستوى تقانة وقوة وتوزّع وتأثير الماكينة الإعلامية الأميركية.

الرئيس الأميركي المثير للجدل دونالد ترامب يقرع طبول الحرب
كان يكفي سابقاً دقّ ناقوس الخطر حتى تُسارع الماكينات الإعلامية الأميركية بصفتها القناة الرئيسية للتواصل ما بين صنّاع القرار والجمهور، لتُفبرك آلاف القصص وتتلاعب بالرأي العام، وتستحضر قوة الإقناع بالصوت والصورة بما يخدم الهدف السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، حتى تتم إعادة صوغ أيّ حدث بتغيير الاتجاهات والسلوكيات، فالقليل من النقاشات التي تتقاطع خيوطها وحبكاتها مع دقّ ناقوس الخطر على الأمن، تؤدّي إلى تكرار السلوكيات وطريقة العمل والخطوط العريضة المتّبعة في تجييش الجمهور لتثبيت وجهة النظر الإعلامية المطلوبة.

فالإعلام كان الحربة الصلبة لكل المعارك العسكرية والسياسية، حيث أن فيتنام كانت تستوجب الرّد على استفزازاتها الشيوعية، والقضاء على حركة طالبان في أفغانستان ضرورة مُلزمة بعد أحداث أيلول، والحرب على العراق حاجة استراتيجية للسيطرة على أسلحة الدمار الشامل التي تشكّل خطراً على المنطقة، وفرض هيبة الولايات المتحدة يحتاج إلى إزالة النظام البعثي لصدّام حسين بحجّة تزويد القاعدة بمنظومة أسلحة لوجستية، وشعارات حقوق الإنسان ورعاية الحريات تحتاج إلى تدمير سوريا وليبيا والعراق، وإنهاك جيوشها النظامية وتدمير بنيتها التحتية ونهب ثرواتها ضماناً لأمن إسرائيل، وسواء تمّ ذلك برعاية الأمم المتحدة أم بالضغط العسكري المباشرة أم بالمال الخليجي عبر سيول المجاهدين فليس ذلك مهماً، فالصورة الكبيرة ستُلغي التفاصيل الأساسية للحدث والضجة الإعلامية ستحتفظ لنفسها فقط بالحقيقة المطلقة.

فالقليل من التصريحات من قِبَل أحد المسؤولين الأميركيين لاتهام إحدى الدول بالفساد أو قمع الحريات أو امتلاك أسلحة أو دعم الإرهابيين أو الخروج عن شرعية العم سام كانت سبباً لتقوم الدنيا ولا تقعد، وتسنّ الأقلام لتقديم الحجج الغوغائية للتلاعب بمصير ملايين البشر في مختلف أنحاء العالم وتسخّر لذلك كل الإمكانيات المادية والتقنية وخاصة إذا كانت بمستوى تقانة وقوة وتوزّع وتأثير الماكينة الإعلامية الأميركية، وليس من باب الصدفة صرف مبلغ 500 مليون دولار من خزينة الولايات المتحدة لفبركة الفيديوهات الجهادية لتوجيه مؤشر البوصلة على الخطر الإرهابي المحدق، فالعولمة الإعلامية والقرية الكونية جعلت لوسائل الإعلام دوراً كبيراً في تسخير الرأي العام وتجييش الجماهير.

ومع تطوّر وسائل الإعلام وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي باتت وسائل الإعلام أشد خطورة وأكثر إمضاءً، وعلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يقرع اليوم طبول الحرب على بيادق السلطة الرابعة بعد أن ألقت عليه تعويذة الموت، فكيف به بين فكوك كمّاشات متعدّدة في حملة ضغط هائلة غير مسبوقة من قِبَل المجتمع المدني الأميركي، تبدأ من إعلاميين ساخطين ظلّوا يتحدّثون عن خطر وصول ترامب إلى السلطة فأتتهم الواقعة من جمهورهم، فباتوا يتحدّثون عن الطعن في شرعية انتخاب الرئيس، وممثلون مشهورون يرون في تصرّفاته وأفعاله ضرباً من التهوّر والسوقية وجنون العظمَة، وجمعيات رعاية حقوق الإنسان والمرأة وغيرهم ممن يرون ( في شخص الرئيس) يمينياً عنصرياً ذا خط تراجعي اجتماعياً، ورجال أعمال يشكّلون الحلقة الأقوى يقودون اللوبيات الأميركية ويقبضون على صناعة الأسلحة والنفط والغاز، ويعتبرون ركناً أساسياً من أركان منظومة صنع القرار أو التأثير في القرار الأمريكي الخارجي والداخلي، ويرون في التقارب مع موسكو خطراً على مكتسباتهم، وتأثيراً مباشراً على هيبة الولايات المتحدة وسوق السلاح، فبات يغلب على المشهد السياسي الأميركي الكثير من الانقسام والتوتّر والقلق في ظلّ تجمّع عدد كبير من المواطنين للدفاع عن حقوقهم الدستورية خصوصاً بعد إقالة وزيرة العدل سالي ييتس والمسؤول بالوكالة عن الهجرة دانيال راغسديل. 

وتحت ظلّ الشلل السياسي في بعض القطاعات تعزّز وسائل الإعلام رؤيتها لخطر التقارب بين موسكو وواشنطن بأن ترامب ينام مع العدو، وتشكّل هذه الصورة حجر الزاوية في البروباغندا الإعلامية لزعزعة الرئاسة وإلقاء التهم بالخيانة ضمن عملية منظمة لتقويض موقفه في السياسة الخارجية، فمؤسسات صنع القرار غير مستعدّة لتغيير السياسة الأميركية وتستصعب الظهور بمظهر العاجز خصوصاً في سوريا، لذا يقود المحافظون الجدد والحزب الديمقراطي حملة قوية لضمان استمرارية برنامجهم الخاص بالسياسات الخارجية والذي يتمحور حول الصراعات العالمية الجديدة والسيطرة على الاقتصاد العالمي وهو البرنامج المهيمن منذ أحداث أيلول 2001،  والموجّه لعجلة الحرب باسم مكافحة الإرهاب عبر استهداف الجماعات المسلّحة وتعزيز عقيدة الحرب الوقائية بشن الحروب الاستباقية كما حصل في ليبيا والعراق.

ومع ارتفاع الأصوات القوية في صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي المندّدة بسياسات ترامب، يبدو من المستبعد أن تبتعد إدارة ترامب عن مبادئ السياسة الخارجية الأساسية المتضمنة الهيمنة العسكرية والهيمنة الاقتصادية العالمية، فإعادة رسم خرائط البيت الأبيض للقادم الجديد ضرورية على جميع الأصعدة الداخلية والخارجية، فما يُطبخ في أروقة السياسة يتضمّن محاولة نزع الشرعية عن الرئيس الخامس والأربعين بأيّ ثمن حتى لو ولّدَ ذلك أزمة سياسية تحمل عواقب اقتصادية واجتماعية وجيبولوتيكية خطيرة.