عن ترامب.. والدولة العميقة
عند الحديث عن مصطلح الدولة العميقة، فإننا هنا لا نتناول حكومة الظلّ أو حكومة الشمس، ولا المربّع الضيّق ولا المستطيل الواسع أو غيرها من مصطلحات الفلسفة السياسية، بل المقصود تحديداً هو ضمير الدولة، وما يمكن أن يعتري المجتمعات السياسية من تغيّراتٍ تؤثّر في تركيبتها الديمقراطية.
وتعتبر طبيعة النظام السياسي الأميركي تربة خصبة لتشكّل هذا النوع من المفاهيم، وذلك لتعدّد مراكز القوى وتنوّع مؤسسات الدولة، يُضاف إلى ذلك وجود جسم إعلامي ضخم ومسيّس، لذا ثمة على طول الخط لاعبون في انتظار فراغ الملعب السياسي. فراغٌ يبدو أنه وجد في الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضالّته، فقلّة خبرته وعدم اطّلاعه على ملفات السياسة الداخلية و الخارجية، جعلته عُرضةً لتلاعُب فريقه من جهة، ولهجوم خصومه من جهة أخرى.
أسابيع قليلة مضت على تولّي دونالد ترامب سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، ولا يكاد يمر يوم من دون تصريح أو تسريب أو خبر عابر أو مستقر عن الحياة السياسية الأميركية، ما يوحي بأزمة سياسية حادّة تلوح في الأفق، إلا أن خفايا الأمور وترتيب الأحداث بشكل منطقي يشير إلى أن واشنطن تشهد تشكل دولة عميقة، بل ربما أكثر من واحدة تتصارع في ما بينها، وكان لافتاً ما نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية حول بدء تشكّل فكرة دولةٍ عميقةٍ في الولايات المتحدة.
وبحسب المجلة فإن مؤيّدي ترامب يتذرّعون بهذه الفكرة، في محاولة لتبرير هجوم الرئيس الأميركي على الصحافة والمتظاهرين، والحرب غير المُعلنة بينه وبين أجهزة الاستخبارات التي سبق أن اتّهمت مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الجديدة بنشاطات غير قانونية ترقى إلى مستوى خيانة الدولة.
ويرى مؤيّدو ترامب أن قوى داخل الأجهزة الإدارية للدولة تتواطأ مع الإعلام والديمقراطيين لإحكام الحصار حول الإدارة الجديدة، وضمن هذا الإطار يضعون سيل التسريبات التي طالت مسؤولي الإدارة الأميركية، فمن مستشار الأمن القومي المستقيل مايكل فلين، إلى وزير العدل جيف سيشنز الذي يُتوقّع أن يلحق بفلين لذات الأسباب، إلى الاداعاءات الجديدة بحق نائب الرئيس مايك بنس حول استخدامه خادماً شخصياً غير آمن للبريد الإلكتروني أثناء عمله حاكماً لولاية إنديانا، وصولاً إلى كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر.
وتضيف "فورين بوليسي" أن معارضي ترامب يتبنّون ذات المفهوم ولكن باتجاه معاكس، مدّعين أنه يمتلك خطّة تهدف إلى تغيير تركيبة النظام السياسي، وأنه يقود انقلاباً ناعماً في الولايات المتحدة، مع الإشارة هنا إلى تصريح كبير الخبراء الاستراتيجيين في البيت الأبيض ستيفن بانون عن "هدم النظام القائم" والذي أجّج المخاوف من وجود "المؤامرة".
وبالرغم من أن الفكرة تبدو إغراقاً في التحليل والذهاب بعيداً في الفرضيات، إلا أن محلّلين أميركيين يرون أن هناك سبباً جدياً يدعو للقلق على سلامة النظام السياسي، فلا يبدو أن هناك شيئاً قادراً على كبح اندفاع خصوم ترامب لإفشال مهمته، كما أن هذا الأخير لا يفكّر ملياً في عواقب ما يفعل على مستقبل النظام السياسي للبلاد.
ختاماً فإن الثابت والأكيد أن الحياة السياسية في الولايات المتحدة تتّخذ منحى خطراً، فلا يكاد مسؤول في الإدارة الجديدة يجلس على كرسيه، إلا وتتبعه التسريبات التي تخلعه منه، ولا يمر يوم إلا ويطلق فيه الرئيس الأميركي نيران مدافعه تجاه الإعلام و المؤسّسات الرسمية الأميركية.
وعليه في ظلّ "الفراغ" الذي تشكّله شخصية ترامب، وقضية التوازن السياسي القائم على المُنافسة والصراع، فإن هذا الفراغ يتم ملؤه عادة بألعاب شبه منطقية في تمظهرها العام، ولكن في كثير من الأحيان حينما تفقد اللعبة حسّها المنطقي الخادع، فهي إذاً النهاية المحتملة، إذ تنتهي النُظم السياسية عندما تفقد آخر إمكانية من إمكانيات الخداع المنطقي.