الأنظمة العربية .. أو هذه البراميل الفارِغة من الوقود
"أفضل ما يميّز الأنظمة العربية اليوم، تفانيها في خداع شعوبها.." هكذا يبدو لي المشهد في الصراع بين قطر والسعودية والإمارات وجزيرة ملك البحرين.. يقولون إن قطر تمارس الإرهاب ويضرب عليها الحصار؟ !! ونسوا أن السعودية هي رأس الحربة فيه، بدءاً من حرب العراق إلى حرب أفغانستان،إلى الآن، وما مجموعة "طالبان" إلا تلاميذ مدارسها الدينية التي أنشأتها في باكستان وأفغانستان وأدارتها المخابرات السعودية بغطاء ديني .. وإن البحرين تمارس اليوم التطهير العرقي باسوأ من الجاهلية الأولى.
وقد بدأ مخطّط الردم هذا في عهد "جيمي كارتر" بعد أن خسر اللعبة العسكرية مع إيران في صحراء طبس ..يقولون أيضاً إن الخطّة جاهزة، وإن الإدارة الأميركية قد صادقت عليها سراً منذ أمد طويل، وتنفذ بالتقسيط السياسي مع عملائها في السعودية على وجه الخصوص، ويجب علينا قراءة هذه الأطروحات قراءة سياسية واعية، وليس وفق المبدأ المُتعارف عليه دبلوماسياً "بطلب توضيحات "، وإني أحذّر هنا، من أن ما يجري الآن في الخفاء ضدّ الكل في الخارطة العربية، هو خطة جهنمية تلعب السعودية فيها بما بقى لها من طحين الإيديولوجية الوهّابية القائمة على قتل الرأي الآخر، لعبة الفوضى اللامتناهية، وتسخير تواجدها بجانب الحرمين الشريفين لإشعال الفتن الطائفية على مستوى العالم الإسلامي أمراً مهما لها كما تشير بعض دوائر استخباراتها، ظناً منها أن ذلك يعطيها قيادة العالم السنّي !! وهنا تكون غير مدركة لواقع متغيّر يلعب لغير صالحها ، وما تدّعيه اليوم بأنها جمعت لقمّة" دونالد ترامب" خمسين دولة غير صحيح أيضاً من الناحية السياسية لأن المجتمعين جميعهم خرجوا من دون أن يعلم أي منهم لماذا حضر ولماذا صدر بيان القمّة باسمه من دون أن يطّلع عليه ، ولماذا هذا الكذب المكشوف.. ؟
وبالتالي لا يمكنها مواجهة الجزائر أو مصر، مثلاً خاصة ، وإن تواطؤها مع إسرائيل ضدّ فلسطين والفلسطينيين صار واضحاً وفاضحاً. ونقول نحن: إن الخطة من كل ذلك تقتضي تأسيس مبادئ ثلاثة للسياسة الأميركية الجديدة في المنطقة.... أولها : وضع قواعد عسكرية جديدة فيها تحت غطاء التحالف الدولي شبيهة بتلك القائمة الآن في تسعين دولة من العالم. و ثانيها : تدمير البني التحتية للمنطقة كلها لإعادة بناء نظام قبلي جديد فيها، لأن الأنظمة الحالية شاخت والشعب بدأ يطلب المزيد من الديمقراطية.. وثالثها : إنشاء حزام أمني يبدأ من قلب المنطقة "سوريا" إلى قلب المنطقة الآسيوية بين باكستان و الهند، و روسيا و الدول المجاورة لها، قصد التحكّم في التقارب الروسي الإيراني الصيني، والتطوّر النووي الباكستاني ، الهندي، و بالتالي المحافظة على المصالح الحيوية الأميركية في منطقة الخليج والدول الواقعة على بحر قزوين إلى سنين قادمة.
الخطة إذن، أخطر مما يتصوّر بعض الساسة البُلهاء في الوطن العربي، و أكبر من حجم العداوة بين سوريا ووكلاء أميركا في المنطقة وعلى رأسهم السعودية، فالكل هذه المرة في ميزان السيّئات سواء .. والكل في نظر كل من "بوش الأب ، وبوش الإبن، وباراك أوباما ، إلى دونالد ترامب" والمؤسسة العسكرية الأميركية وبكل أدرعها" إرهابيون، أو يمارسونه بالوكالة أو بغباء وكلائهم العسكريين في الخليج..وحين تصبح السياسة كذباً مكشوفاً ومن إطراف تدّعي الإسلام والوصاية على العالم السنّي، تبدو الأمور ليست ساخنة فحسب بل الكل فيها يمشي على الجمر وحاصلها ليس الخراب بل الموت للجميع بتعبير الرئيس بوتين..ويمثل كل ذلك بأمانة الصراع الدائر اليوم بين أنظمة الحكم السلالي في الخليج ، صراع قد يقود الجميع فيه إلى حرب تعيدهم جميعاً إلى ما قبل السبعينات من القرن الماضي.
ثم ماذا يمكننا أن نقول أمام هذا التراجع الخطير لأنظمة الحكم العربية وأمام الهمجية الأميركية السعودية...؟ بل ماذا يمكن لكاتب صحفي مثلي أن يقول بعد أن توغّلت العاهات المُستدامة في السياسات العربية وصارت قاعدتها الأساسية، وتحوّلت الأفكار فيها إلى ما يشبه الخطأ ألعمدي المتتالي، و قد وضحت منذ بداية التسعينات على أن الأمّة العربية تتحوّل مع الجنون الأميركي السعودي الخليجي إلى ورشات للموت البطيء ، ذلك أن السياسة الأميركية تضع هذه الأمّة وعلى مدى عشرين سنة من مقدمّة الألفية الثالثة موضع الهدم، لعدّة أسباب : أهمها: سبب استراتيجي،من دون أبعاد سياسية، لأن التوصيف الأميركي للصراع الجديد قائم على المعادلة الاقتصادية و ليس على المعادلة السياسية ذات الطابع الإيديولوجي مثلما كانت عليه الحال خلال حقبة الحرب الباردة ، ومن دون أيّ اعتبار لمبدأ التوازنات الدولية المُصاغة ما بعد الحرب العالمية الثانية .
وفضلاً عن كل هذا فإن أميركا خسرت منذ حربها ضدّ الإرهاب أهم خصائصها الإستراتيجية أمام روسيا والصين ، حيث ظهرت ترسانتها الأمنية والنووية غير قادرة على تحديد الأهداف التي تصطاد الأماكن الحساسة فيها، و محتمل جداً تفسير سوء ذلك في ضوء الحاصل الجديد في الصراع بين الروسي -الصيني وأميركا، على وجه الخصوص، إن فكرة الدولة الكونية أضحت مجرّد وَهم توغّل في الضمير الأميركي من دون سند تاريخي أو سياسي أو عسكري ... ثم إن الهزّة- هزّة الصمود السوري- كانت أكثر مما هو متوقّع حتى من عدوّها التقليدي الاتحاد السوفياتي سابقاً، هزّة افترضت معها قوى الشر الأميركي على أنه بالإمكان تحطيم البنى التحتية للوطن العربي كله، وعدم فسح المجال أمامه من أجل أن يكون متواجداً على خارطة الأحداث، لأنه يمثّل من وجهة نظرها، ليس خطراً على السياسة الأميركية فحسب بل خطراً على الفكر المسيحي، وبالتالي القيم التي نسجتها من الفكر الوثني عبر مراحل عدّة من الصراع الداخلي بين المؤمنين به والرافضين له.
في عهد جيمي كارتر وضعت خطّة لاحتلال منابع النفط، وإسقاط دول بالكامل من الخارطة السياسية، تمهيداً لإسقاط إيران باعتبارها الدولة الأكثر راديكالية تجاه الموقف الأميركي القائم على عدم المهادنة تجاه قضية فلسطين، وقد كان العراق على رأس هذا المخطّط، ثم تليه الصومال باعتبارها بوابة الشرق الإسلامي على البحر الأحمر تجاه إفريقيا ، كانت الكويت ضمن هذا المخطّط وتمثّل البقعة الأكثر تركيزاً واستقطاباً لبقية بلدان الخليج العربي، وقد وضع العلم الأميركي فوق هذه البقعة.( الكويت).
أما الجزائر فقد أشار إليها هذا المخطّط على أنها منطقة توتّر دائم للعلاقات في إطار الصراع القائم بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، كما يتوهّم التوجّه الأميركي، لذلك كان لا بدّ من خلق محنة داخلية لها تضع كل مقوّماتها أمام قوة التلاشي المستمر. بل والقضاء تدريجاً على القواعد الأساسية التي توحّد الأمّة فيها، وتضعف باستمرار مع التجديد قوة التوحّد والتضامن، وهذا ما حدث فعلاً في نهاية الثمانينات ونتائجه السلبية هي اليوم أكثر من كارثة، وأكبر من حجم التصوّر الأميركي ذاته، هذا المخطط تطوّر مع تزاحم الأحداث، في السياق السلبي لأميركا، بدءاً من الأحداث العنيفة التي هّزت مصالحها في العالم " السعودية، نيروبي، إيران، باكستان وأفغانستان"مروراً بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي راح ضحيتها حوالى ستة عشر ألف بين القتلى والجرحى.. و المسلسل لا زال مستمراً ، و يمكن أن يؤدّي إلى كارثة أخرى في الشرق وبالتحديد في سوريا، إذا لم تتراجع أميركا عن سياستها الإجرامية، هذا المسلسل أدى إلى فرض عدّة قيود على الشعب الأميركي بحيث أصبح الخوف يسيطر على المجتمع الأميركي، ما أدّى إلى تجنيد حوالى أربعة عشرة مليوناً من الجواسيس بين الشعب، وهذا يعني أن أميركا في طريق التحوّل من مجتمع تحكمه مبادئ الديمقراطية إلى مجتمع تحكمه القوانين العسكرية، و تسيّره قوة البوليس السري، وما الصراع القائم اليوم بين الشرطة والشعب والقتل العمدي المتواصل بينها إلا قشرة لهذا الصراع، ربما يتم ذلك أيضاً في غياب القانون في دولة تدّعيه ، وتبشّر الدول به "بالرانجاس" و هو ما يعني أيضاً الدخول بها - غير المرئي - في الفوضى الاجتماعية المؤدّية إلى الحرب الأهلية، وقد نبّه مؤخراً إلى هذا الرئيس" باراك أوباما" نفسه.
إن الاستقرار العالمي لم يعد أحد الثوابت في السياسة الأميركية، بخلاف روسيا ، بعد أن كان أحد المنطلقات الأساسية لها، و من ثم فإن دافع أميركا اليوم نحو تبنّي الفوضى الخلاّقة وعلى مساحات دولية هو لإيجاد مبرّرات و لو بشراء الذمم، من أجل توسيع رقعة اللاستقرار في العالم قصد ضمان الحد الأدنى لها من التواجد ضمن مقدّمات الواقع الخارجي حفاظاً على أمنها الداخلي..هكذا يبدو لها رغم أنها هي أيضاً ضمن هذا الحيّز من الفوضى..إن الرؤية الاستعمارية في الحرب القادمة ضدّ أيّ كان من الدول لم تعد خافية حتى و إن ادّعت أميركا بأنها تحاول توجيه "ضربة قاتِلة" للحفاظ على شروط بقاء سوريا والعراق ضمن ثوابت السياسة الأميركية مثل جيرانهما، و هذا المنطق ليس سخيفاً فحسب ، بل إنه أكثر استخفافاً بالأّمة العربية، و بمصادر قوتها ، ولا شك أيضاً أن هذا التصوّر فضلاً عن طابعه الإجرامي ، قائم على فلسفة اللاتواجد لأمّة إسمها الأمّة العربية، وأميركا تؤمن بهذا انطلاقاً من الموقف التراجعي لأنظمة الحكم السلالي في الوطن العربي، بل إن أرشيف وزارة الخارجية الأميركية كما تقول مصادرها ،خصّص جانباً مهماً منه لكثير من سِيَر الحكّام العرب المتواطئين معها، إن بشراء الذمم أو بما هم عليه من سيّئات ..ومهم جداً لأميركا ألا يكون في هذه الأمّة رجل يؤمن بتاريخ شعبه و بقيمه الحضارية مثل عبد الناصر وبومدين، ومن المؤلم حقاً أن بعض الدول العربية قد وافقت سراً وعلناً على ضرب العراق من قبل وسوريا لاحقاً وبأموال عربية، وهي تعمل ذلك اليوم بالتوافق مع إسرائيل سراً وعلانية، وأضاعت من أجل ذلك ما يفوق عن مائة مليار دولار، في صفقة وهمية وحوالى نصف ترليون دولار لاحقاً..
والبعض الآخر رفض النطق بالرفض لهذه الحرب الجديدة ضدّ العراق وسوريا خوفاً من أن تكتشف عورته، لقد أكد محمّد حسنين هيكل على إن الأمّة العربية توفّر لديها من المال في فترة الطفرة البترولية ما لم يتوفّر لأربع إمبراطوريات.. و ما يحدث الآن في فلسطين من تراجع رهيب وموالاة لليهود خير شاهد، رغم جرائم التنكيل بالفلسطينيين والتي هي أيضاً بلغت ذروتها ، و أميركا ترفض أيّ قرار من مجلس الأمن يصدره ضدّ هذه الجرائم، ومع ذلك ينظر الحكّام الأعراب بأعين شبيهة بأعين البوم إلى واقعهم ، ولم يتجرّأ أي منهم مثلما فعل الملك فيصل في وجه "كسينجر" (سنصلّي في القدس) مع أنهم يردّدون على مسامعنا قول المتنبي : "تعدّدت الأسباب والموت واحد"..هناك سؤال يُردّد اليوم بقوة، هل أن الأنظمة العربية وعلى الخصوص الخليجية منها موجودة فعلاً، أم أنها مجرّد قصور خاوية على عروشها ..؟ بل إن البعض ذهب إلى القول بأن الحكّام العرب مجرّد نعاج في قفص من رخام..