وعود ما قبل الوعد..تخطيط بريطانيا قبل وعد بلفور

إن أطماع الغرب في فلسطين قديمة العهد لما يمثّله موقعها الجغرافي من أهمية استراتيجية اقتصادية وعسكرية ودينية، وقد كانت بريطانيا على رأس الدول الاستعمارية الطامعة في السيطرة على المنطقة، وازداد اهتمامها بشكل خاص في أعقاب احتلالها للهند في القرن السابع عشر، وبشكل أكبر بعد حملة نابليون على مصر وفلسطين في أواخر القرن الـ 18، حيث ازدادت رغبتها في السيطرة على المنطقة العربية بشكل أكثر مباشرة رغبة في تأمين مصالحها وحماية طريقها إلى الهند.

ثم جاءت فكرة تكوين دولة موحّدة في المنطقة على يد محمّد علي باشا لتزيد من إصرار بريطانيا على بسط نفوذها من خلال تكوين مستعمرة لها يمكن أن تحقّق – إلى جانب التخلّص من مشكلة اليهود في بريطانيا وتحويل الهجرة اليهودية من شرق أوروبا إلى فلسطين بدلاً عن غرب أوروبا وخاصة بريطانيا - ضمان وجود حاجز بشري يحول دون قيام دولة عربية موحّدة في المنطقة، كما ساهم شقّ قناة السويس ثم احتلال بريطانيا لمصر في النصف الثاني من القرن الـ 19 في تعميق التفكير الاستراتيجي للساسة الإنكليز بالنسبة لأهمية فلسطين وضرورة السيطرة عليها، ما زاد الحماس لفكرة إقامة مستعمرة يهودية في فلسطين. 

في سبيل تحقيق هدفها قامت بريطانيا ببحث الكثير من الأفكار والخطط الرامية إلى توطين اليهود في فلسطين، حتى قبل أكثر من قرن من الزمان على قيام  الحركة الصهيونية، بل يمكن اعتبار بريطانيا المُلهِم والداعِم لتبلور هذه الحركة، ويبدو ذلك جليّاً من استعراض بعض ما قامت به بريطانيا في هذا الشأن.

أسّست الحكومة البريطانية أول قنصلية غربية في القدس عام 1838 بحيث كان من أهدافها حماية يهود السلطنة العثمانية  رسمياً، وكانت الجالية اليهودية في فلسطين صغيرة جداً لا تتجاوز (6500) نسمة حسب إحصاء الحكومة المصرية حينذاك موزّعين بين القدس والجليل وصفد وطبريا، ثم قامت كل من فرنسا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وروسيا ثم الولايات المتحدة بإنشاء قنصليات لها في القدس، وقد تنافست القنصليات الأوربية في القدس - وخاصة البريطانية والفرنسية - في مساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وقد كتبت صحيفة تايمز اللندنية في 17 آب/ أغسطس عام 1840 تحت عنوان "سوريا وبعث اليهود": "إن اقتراح توطين اليهود في فلسطين تحت حماية الدول الخمس لم يعد الآن محل جدل بل أصبح موضع دراسة جادّة".


في 11 آب/ أغسطس عام 1840 كتب الفايكونت بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا إلى السفير البريطاني في الآستانة بأن (عودة) اليهود إلى فلسطين قد اقتربت، ثم أتبعها برسالة أخرى في فبراير عام 1841 أعلن فيها أن بريطانيا أصبحت مسؤولة عن تحقيق مشروع إسكان اليهود في فلسطين، وشرح المنافع السياسية والمادية التي تعود على السلطان العثماني من تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين مدّعياً أن هذا "سيشكّل سدّاً في وجه مخطّطات شريرة يُعدّها محمّد علي أو من يخلفه"، لكن بالمرستون لم يستطع إقناع السلطات العثمانية بالسماح لليهود بالهجرة، وقد تبنّى أفكار بالمرستون من بعده أبرز رجال السياسة الاستعمارية البريطانية من أمثال شافتزبري وديزرائيلي وجوزيف تشمبرلين وتشرشل وبلفور وغيرهم.


وفي عام 1845 طلبت بريطانيا من الدولة العثمانية طرد سكان فلسطين لإسكان اليهود مكانهم، وفي عام 1855 قام الثري البريطاني وزعيم الجماعة اليهودية في بريطانيا مونتفيوري بتمويل عملية شراء أول قطعة أرض في فلسطين.


وفي عام 1865 أسّست بريطانيا صندوق اكتشاف فلسطين لتسهيل عملية استيطان اليهود فيها، وقام العاملون في الصندوق بدور كبير في توجيه أنظار اليهود إلى فلسطين،  فمثلاً قد حصلت بريطانيا عام 1869 على فرمان بواسطة السفارة البريطانية في اسطنبول للتنقيب عن هيكل سليمان.


ومع حركة الغزو الاستيطاني اليهودي المُتّجهة إلى فلسطين جاءت عام 1870 فكرة إنشاء قوة يهودية مُسلّحة بهدف حماية المستوطنات. 

وفي عام 1888 منحت الحماية البريطانية لمئات من العائلات اليهودية للتغلّب على قوانين الحد من الهجرة اليهودية التي أصدرتها الحكومة العثمانية، وفي عام 1891عرض اللورد البريطاني اليهودي غوشن على الحكومة العثمانية توطين اليهود في فلسطين مقابل مبلغ كبير من المال لكن مشروعه رُفِض.


في عام 1900قام "المُتبرّع السخيّ" روتشيلد بتسليم جميع مشاريعه في فلسطين إلى جمعية الاستيطان اليهودي، ثم إنه مَن ساعد حاييم وايزمان في حصوله على تصريح بلفور في ما بعد، وقد انتُخِب رئيساً للوكالة اليهودية عام 1929. 


وفي ديسمبر عام 1914استطاع سكوت محرّر مانشستر جارديان عقد اجتماع بين وايزمان ووزيرين بريطانيين هما لويد جورج وهربرت صموئيل،  وهو أول يهودي يدخل الحكومة البريطانية للبحث عن توطين اليهود في فلسطين.


وخلال الحرب العالمية الأولى دعا بعض الزعماء الصهاينة إلى تشكيل وحدات يهودية تقاتل في صف الحلفاء للمساهمة في احتلال فلسطين وتكوّن نواة الجيش اليهودي فيها، وتمّ لهم ذلك بالفعل وكان أهم تلك الوحدات الثلاث التي شكّلت الفيلق اليهودي الذي تمت الموافقة على إنشائه بمساعدة وزير الداخلية البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل، وتم نقل وحدات هذا الفيلق في ما بعد إلى فلسطين ضمن جيش الاحتلال البريطاني، ثم انحلّت عام 1920 وانضم معظم أعضائها إلى عصابات الهاجاناة. 


في يناير عام 1915 قدّم هربرت صموئيل مذكّرة إلى رئيس الوزراء البريطاني أسكويث وأتبعها بمذكرة مُماثلة وزّعها على باقي الوزراء في آذار/ مارس من العام نفسه، طالب فيها باحتلال بريطانيا لفلسطين وتأسيس دولة يهودية فيها تحت إشراف بريطانيا وفتح باب الهجرة لليهود لدخولها لإقامة مركز ثقافي وروحي لليهود، كما اقترح منح اليهود الذين يَفِدون إليها حكماً محلياً قد يتطوّر مع مرور الوقت إلى دولة تكون موالية لبريطانيا، وقد حظيت هذه المذكّرة بتأييد الكثيرين من أعضاء الحكومة البريطانية، ولكن معارضة رئيس الحكومة للمشروع أدّت إلى فشله.


في عام 1916 وفي اجتماع بين حاييم وايزمان وناحوم سوكولوف وبين عضو مجلس الحرب مارك سايكس أبلغهما الأخير أن بريطانيا تنظر بعين العطف للمساعي الصهيونية، وذلك بعد مذكّرة قدّمها الصهاينة إلى الحكومة البريطانية بضرورة إعلان فلسطين وطناً لليهود وإقامة حُكم ذاتي لهم فيها.

في تشرين الأأول/ أكتوبر عام 1917 اجتمعت الحكومة البريطانية وأقرّت موقفها النهائي من طلبات الصهاينة، وفي 2 تشرين ثاني/ من نوفمبر عام 1917 أصدر بلفور –بصفته وزيراً للخارجية- "تصريح بلفور" خلال رسالة إلى اللورد روتشيلد هذا نصّها:

وزارة الخارجية 
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917 
عزيزي اللورد روتشيلد 
يسرّني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: 

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهودية المُقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتّع به اليهود في البلدان الأخرى". 
وسأكون مُمتنّاً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علماً بهذا التصريح. 

المخلص
آرثر بلفور

في الحقيقة لم تكتفِ بريطانيا بجريمتها متوالية الحلقات في حق الشعب الفلسطيني والعربي قبل وعد بلفور، وما اقترفت بعده، والذي قد نتطرّق إليه في مقال آخر، بل قامت بخديعة كبرى للعرب حين أوهمتهم بنيّتها في مساعدتهم للتخلّص من الحُكم التركي وتكوين دولتهم العربية، فتفاهمات بريطانيا مع الشريف حسين في فترة ما بين عامي 1915 و1916 كانت مناقضة لاتفاقية سايكس بيكو في مايو عام 1916 التي نصّت على أن تكون فلسطين تحت إدارة دولية، كما تناقض كلاهما مع المطالب الصهيونية التي عملت بريطانيا على تحقيقها.

هذا غيضٌ من فيض ما قامت به بريطانيا من جُرم في حق شعب فلسطين الذي أصرّت على نفي وجوده وأعطت لنفسها الحق في تمليك أرضه لأناس آخرين جعلتهم هي "شعباً" آخر.