الانتخابات الرئاسية: عود على بدء
لافتا كان صباح اليوم الأخير من تشرين الأول /أوكتوبر 2016. خبران متلازمان، بالتأكيد لم يكن أحدهما نتاج الآخر. الحشد الشعبي يتقدم في الموصل، والبرلمان اللبناني ينهي أزمة الفراغ الدستوري بانتخاب رئيس للجمهورية، هو مرشح قوى المقاومة الذي تمسك السيد حسن نصرالله،به. والحدثان غير المترابطان يؤشران إلى توازن جديد يلوح في المنطقة، يفترض ان يحدد حلولها.
السيد نصرالله كان مفعما بالأمل بالانتصار، حتى ولو لم تكن المعركة تشي بذلك في المدى المباشر. لذلك، ظل متمسكاً بمرشح المقاومة، وحلفها لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وكان المحور المجابه ما يزال قادراً على رفض ما لا يريد.
ولبنان خرج من ساحة الصراع السورية بالإقفال شبه التام لحدوده، وطبق سياسة النأي بالنفس عملياً، وليس نظرياً، عبر المعارك التي خاضتها المقاومة، والجيش السوري مع المسلحين حول الحدود اللبنانية، وتمكنها من ضبط الحدود. لكن ذلك لم يكن كافياً لفرض المقاومة مرشحها، ولا لاضطرار الطرف المجابه القبول به، فالمعركة الفصل ما تزال مندلعة في الإقليم، سوريا والعراق، واليمن ايضاً، ولا أحد يمكنه تحديد نهايتها.
منذ تدخل الروس في المعركة الجارية شمال سوريا، استعاد محور المقاومة، وسوريا ما خسره سابقاً، وتمكن من قلب موازين القوى، ووصل إلى الحالة التي كان ينظر السيد نصرالله إليها، وفي يقينه أنها ستتحقق.. رؤاه باتت أمراً واقعاً مع انقلاب موازين القوى لصالح حلفه.
في هذه الأجواء، وقبل حصول مزيد مما هو أفضل لحلف المقاومة، وأسوأ للحلف المجابه لها، أطل الرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري بمبادرة ترشيح مرشح من حلف المقاومة للرئاسة-سليمان فرنجية. كانت اللعبة مكشوفة، لكن معانيها واحدة، وترجمتها هي بداية اعتراف ضمنية ببدء خسارة المعركة في سوريا، أو على الأقل انقلاب موازين القوى.
لم يؤخذ حلف المقاومة، وقائده نصرالله، ب"الهمروجة”. فهو أدرك أنه طالما وصل الأمر به لترشيح فرنجية، فإنه بات على وشك القبول بترشيح ميشال عون، فتوازن المعركة الذي فرض القبول بفرنجية، وهو لم يكن مقبولا لديه سابقا، يمكنه فرض عون. لذلك، لم تنطلِ لعبة الحريري، ومناورته، على السيد نصر الله وحلفه، رغم ما يكنه، هو وجمهوره، وحلفه برمته، من ود وتقدير لفرنجية.
سياق المعركة أوصل إلى قبول الطرف الآخر بفرنجية، ولاحقاً القبول بعون أمام تصلب المقاومة، ورفضها للمناورة الحريرية. وفي هذا السياق، لم تخرج اللعبة السياسية اللبنانية عن مسارها التاريخي منذ نشأة الكيان 1943، حيث كانت معاركه المفصلية ارتدادا للتوازنات الاقليمية والدولية. تسوية فؤاد شهاب كانت لحظة توازن بين حلف بغداد المناصر للولايات المتحدة الأميركية، وحركة جمال عبد الناصر المدعومة من الاتحاد السوفياتي في ذروة الحرب الباردة.
توازنات القوى في المنطقة، وصعود تيار المقاومة الفلسطينية، قابلته ردة فعل أميركية أثمرت انتخاب حالة وسطية بين سلطة لبنانية تابعة للغرب، وصداقة مع الداخل السوري، فكان انتخاب سليمان فرنجية 1970.
اختلال موازين القوى الاقليمية، والمحلية بالاجتياح الاسرائيلي أتى بالمرشح الأميركي-الاسرائيلي بشير الجميل لرئاسة الجمهورية. الاجتياح قضى على أية مقاومة لهذا الترشيح بالانتصار الكاسح الذي حققه الاجتياح الاسرائيلي 1982. وهو أعاد انتخاب شقيقه أمين الجميل في ظل المعيار عينه: الاجتياح.
تصاعدت المقاومة للاجتياح، والتقطت سوريا أنفاسها، فجاء انتخاب حالة أشبه بالوسطية، أو الشهابية، تمثلت بانتخاب رينيه معوض، مع أرجحية للغرب. وما لبث تصاعد المقاومة الوطنية، وقوى حلف سوريا أن استعاد انفاسه، وتمكن من انتخاب رئيس جديد هو الراحل الياس الهراوي، المقرب من سوريا.
تصاعدت أعمال المقاومة في الجنوب اللبناني، واستعادت سوريا موقعها بعد تراجعات الاجتياح، ميزان قوى مستجد استطاع الإتيان بالمرشح آميل لحود، حليف سوريا والمقاومة.
الحضور الغربي كثيف في المنطقة إثر الاجتياح الأول للعراق، لكن المقاومة متصاعدة، يتصلب عودها، توازن مستجد أمكن من انتخاب ميشال سليمان الذي كان في لحظة انتخابه مقرباً من سوريا وحلف المقاومة، قبل أن تنقلب مواقفه على خلفية الهجوم الأميركي الكاسح عقب اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
تنتهي ولاية سليمان، والمعركة في سوريا بلغت ذروتها، ولبنان انخرط فيها من مواقع مختلفة، فكان من الطبيعي تعذر انتخاب رئيس بديل من سليمان، فبقيت سدة الرئاسة معطلة لسنتين وأكثر. ومتى تغير الميزان بنتيجة المعارك في سوريا مؤخرا، جاء ميشال عون ثمرة للتوازن القائم حاليا.
من هنا يمكن القول أن معركة انتخاب ميشال عون لم تأتِ بجديد، وهي تكرار لما حدث في لبنان في محطاته الدستورية المشابهة.
ورغم اختلال ميزان القوى في معركتي سوريا والعراق لصالح حلف المقاومة، فقد جاءت محطة انتخاب الرئيس بمثابة إعادة إحياء للصيغة اللبنانية المتأسسة على خلفية اتفاقية سايكس-بيكو، وانتخاب رئيس بالدستور عينه، وبالتركيبة الطائفية عينها، يؤشر ذلك إلى أنه لا يزال أمام محور المقاومة الكثير لكي يتمكن من تحقيق شروطه، وفرض صيغته المفترضة التي لم تتظهر بعد، خصوصاً لأن المعركة السورية لا تزال مندلعة. ربما لم يحن أوان إعادة النظر بالصيغة، وربما لن تطرح الفكرة أساسا لاحقا، حتى وإن انقلب ميزان القوى لصالح حلف المقاومة وسوريا بشكل عميق.
حقيقة اخرى أظهرتها الانتخابات، وهي ظاهرة يمكن وصفها باللاوطنية، تتركز بإعادة صياغة السلطة على الأساس الطائفي، والتوزيعة الطائفية للسلطة التي تأسس عليها الكيان اللبناني. تجلت معضلة الكيان، التي أفرزت عدة صدامات أهلية بدءا من محاولة التجديد لبشارة الخوري 1952، ثم ثورة 1985 بانحياز رأس السلطة الماروني (كميل شمعون) للغرب، واستنهاض شريحة اجتماعية هي مكون أساسي لسلطة الكيان، أي المارونية السياسية التي جابهت الحضور الفلسطيني، ثم السوري لاحقاً، والتي فتحت باب الصراع الأهلي-غالباً المسلح- على مصراعيه دون توقف يذكر، وما يزال مستمراً حتى انتخاب ميشال عونا رئيسا للجمهورية.
تجلت ثغرة الانتخاب على الخلفية الكيانية عينها بطبيعة الاحتفالات بانتخاب عون. المناطق المارونية، خصوصاً في جبل لبنان، تأججت بالاحتفالات، والفرح بانتخاب رئيس الجمهورية الماروني، بينما كانت الاحتفالات إما خافتة، أو صامتة كما في طرابلس وصيدا والبقاع، بعيدا من مراكز التواجد الماروني، بينما تشهد هذه المناطق، في محطات أخرى معينة، تحركات مناصرة للخارج المشابه لها، لذلك، لا عجب أن ترتفع صورة الملوك العرب، أو الأتراك، وأعلامهم في هذه المناطق، كما سيكون منطقيا احتفالها بتكليف سعد الحريري لرئاسة الحكومة في الأيام المقبلة.
قد يكون من المفيد وقف النزف اللبناني في المرحلة المقبلة، وربما هذا ما لمس ضرورته السيد نصرالله، وحلفه، فدعم إعادة انتخاب رئيس كخطوة تتيح إعادة تكوين سلطة تدير البلد المتفلت من أية ضوابط، وتؤمن بعض ارتياح للجمهور اللبناني، والمقيمين فيه، والاهتمام بمعضلاتهم الحياتية، فكان انتخاب الرئيس ميشال عون.
الكارثة أن يستمر هذا الخيار بعد إنجاز الانتصار الذي يترقبه السيد نصر الله وحلفه، والإبقاء على صيغة الكيان المرضية، التي أنتجت الحروب الأهلية المتكررة، والتي لم تصمد أمام تحديات المراحل المختلفة، وكبدت لبنان، وكل مقيم على أرضه، الخسائر الكبيرة، غير محدودة الآفاق.