على بريطانيا تحمّل مسؤوليتها

ما اقترفته بريطانيا في فلسطين لا يقلّ بشاعة عما اقترفه ويقترفه الصهاينة، ناهيك عن أنها المُمَهّد والمُمَكّن لهم، بل أصل وجودهم.

بريطانيا مكنت العصابات الصهيونية من اغتصاب الأرض وتشريد الشعب بعد التقتيل والترويع
لما كان (الرجل المريض) في أواخر سنيّ عمره كان على الغرب أن يُفكّر في المرحلة القادمة، فهو _على عداوته التاريخية للسلطنة العثمانية_ يخشى أن يقوم مقامها كيان عربي موحّد يكون شراً منها على مصالحه الاستعمارية، لذا حين اتّجه قائد الثورة العربية الكُبرى للاستعانة بالغرب للتخلّص من سلطة الدولة العثمانية كان كمَن يستجير من الرمضاء بالنار، وفي الوقت الذي تنافست فيه بعض القيادات السياسية العربية في استرضاء الغرب كانت دول الغرب تتنافس في استرضاء اليهود، وقد تقدّمت بريطانيا في هذا المجال على الدول الأخرى حتى ليرى المؤرّخون أنها تقدّمت في الصهيونية على ظهور الحركة الصهيونية نفسها.
ولم يكن وعد بلفور أول وعود بريطانيا لليهود في هذا الصدد، ولكنه كان آخر ما بلورته من أفكار ووضعته سريعاً قيد التنفيذ العملي وهيّأت كل السبل والوسائل والظروف لتحقيقه، فقد سارعت مع الدول الاستعمارية الأخرى إلى تقاسم تركة الدولة العثمانية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، واتّفقت بريطانيا وفرنسا على تقاسُم منطقة الهلال الخصيب وأصرّت بريطانيا على أن تكون لها السيطرة على فلسطين بهدف تحقيق وعد بلفور وتهيئة كل الظروف لخلق دولة يهودية في فلسطين، وشرعت في ذلك حتى قبل الحصول على صك الانتداب.

ولم تتورّع بريطانيا _مدعومة بعصبة الأمم_ عن أي عمل يحقّق لها ما أرادت، فعند احتلال ألنبي للقدس كان معه فيلق يهودي مُدرّب (ضمّ بن غوريون)، كما عُيّن الصهيوني هربرت صموئيل كأول مندوب بريطاني على فلسطين، فأعطى الصهاينة امتيازات واسعة وتسهيلات عظيمة، فازدادت أعداد اليهود في فلسطين نتيجة هجرتهم إليها بأعداد هائلة، حيث لم تكن نسبتهم في مطلع القرن العشرين تزيد على 5% من السّكان، كما سمح لهم بتكوين جيش منفصل في الوقت الذي كانت فيه الملاحقة والاعتقال والتنكيل جزاء كل من يمتلك أي سلاح من الفلسطينيين، بل شنّت القوات البريطانية آلاف المُداهمات والحملات التفتيشية المُباغِتة على الأحياء والمناطق العربية لجمع الأسلحة ومُعاقبة المُسلّحين، حتى آخر لحظة من عمر الانتداب في الوقت الذي كانت فيه تُسلّح العصابات الصهيونية حتى بالمدافع الثقيلة والآليات، وتُدرّب عناصر الهاغانا وغيرهم على أساليب حرب العصابات بحجّة مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، بل إنها تركت قُبيل مُغادرتها عشرات المواقع العسكرية بكامل قدراتها القتالية للعصابات الصهيونية بما في ذلك المطارات والمعسكرات والخطوط الدفاعية، فكانت المَعدّات العسكرية البريطانية نواة المَعدّات الحربية التي قامت عليها قوات الدولة الصهيونية في ما بعد.

أضف إلى ذلك، إن انسحاب بريطانيا من فلسطين من دون التنسيق مع الأمم المتحدة _بحجّة رغبتها في إنهاء الانتداب_ كان إتماماً لفصول خُطّتها الرامية إلى إنشاء الكيان الصهيوني، فقد بدأت بريطانيا سحب قواتها من المناطق الخاضعة لليهود منذ 19\2\1947 بينما بقيت في المناطق والأحياء العربية حتى 15\5\1948 وذلك بهدف تمكين الحركة الصهيونية من ترتيب صفوفها وإحكام سيطرتها على المناطق وتعزيز قدراتها المُختلفة تمهيداً لفرض سيطرتها على أكبر مساحة مُمكنة من فلسطين لإقامة دولتها عليها، بينما فاجأت العرب بالواقع الجديد حتى لا تكون لديهم القدرة على مواجهته عسكرياً أو اقتصادياً أو إدارياً.

هكذا مكّنت بريطانيا العصابات الصهيونية من اغتصاب الأرض وتشريد الشعب بعد التقتيل والترويع والعمليات الإجرامية المُختلفة. إن ما اقترفته بريطانيا في فلسطين لا يقلّ بشاعة عما اقترفه ويقترفه الصهاينة، ناهيك عن أنها المُمَهّد والمُمَكّن لهم، بل أصل وجودهم.

إذن لا بدّ من وضع اليد على الجرح، إنها الجريمة البريطانية التي لابدّ من أن تعترف بها بريطانيا، لقد تجرّدت من كل القِيَم الحضارية والإنسانية حين وهبت ما لا تملك لمن لا يستحق، وحين حاولت بالبطش والتنكيل أن تؤكّد أن فلسطين أرض بلا شعب رغم الحقيقة الصارِخة لوجود هذا الشعب في مظاهر حياته المُختلفة وفي ثوراته وتظاهراته المُتعاقِبة ضدّها وضدّ الحركة الصهيونية، ولا بدّ من وقوف كل ذوي الضمائر الحيّة في العالم لرفع الصوت عالياً مطالبين بريطانيا بالاعتراف بجريمتها في حق الشعب العربي الفلسطيني.