ممّا يتكوّن الكون؟
تتنوّع الأسئلة ضمن العلوم المُعاصِرة منها السؤال العلمي الأساسي ألا و هو : مما يتكوّن الكون؟ و العُلماء يختلفون حول كيفية تحليل الكون و فهمه تماما ،ً كما يختلفون حول أية قضية علمية أخرى. و هذا مصدر غنى فحرّية الاختلاف تضمن استمرارية العِلم و الحضارة.
ويقول فريق ثالث من العُلماء إن الكون يتكوّن من معلومات و تدفّقها. هكذا ينمو الخلاف بين النظريات العلمية المُعاصِرة. فالصِراع الفكري سيّد العلوم لكونه يُحرّك العقل لبناء نظرّيات و نماذج علمية جديدة. من دون صِراع فكري يموت العقل و يفنى. لكن هذا لا يمنع من طرح حلول مُمكنة لحلّ الخلاف بين النظرّيات العلمية و اعتبار تلك الحلول جزءا ً من التفكير العلمي.
يُقدِّم الفيزيائي ماكس تغمارك نموذجاً علمياً فريداً في كيفية وصف الكون و تفسيره، فيقول إن الكون المادي ليس موجوداً بالفعل بل الكون بُنية رياضية مُجرّدة.
هكذا يختفي العالَم المادي ليحل مكانه عالم الرياضيات المُجرَّد. يطرح تغمارك السؤال التالي: لماذا الرياضيات ناجحة في وصف عالمنا؟ و يُجيب قائلاً: إن الرياضيات ناجحة في وصف الكون لأن الواقع الفيزيائي ليس سوى بُنية رياضية.
أما برهانه على صِدق فرضيّته العلمية فهو التالي: كل الصفات الفيزيائية لأي جُسَيم كالإلكترون من الممكن بحق وصفها رياضيا ً.
وبذلك أي جُسَيم فيزيائي هو في الحقيقة بُنية رياضية. من هنا، كل الكون ليس سوى بُنية رياضية. لكن البُنية الرياضية هي مجموعة عناصر مُجرّدة ترتبط في ما بينها بعلاقات مُجرّدة كعلاقات الجَمع و الضرب. هكذا يختزل تغمارك العالم المادي إلى عالم رياضي فتزول المادة و يسيطر الكون المُجرّد.
هذا النموذج العلمي ليس سوى فرضية علمية أخرى تُضاف إلى النماذج العلمية الناجحة في وصف الكون و تفسيره. بالنسبة إلى النموذج العلمي الأول ألا و هو النموذج الكلاسيكي ، العالم يتكوّن من مواد و طاقاتها ؛ فالكون ذرّات مادية تتشكّل من جُسَيمات كالإلكترونات و العلاقات في ما بينها. أما نموذج علمي ثان ٍ فيؤكّد على أن العالم أوتار و أنغامها. فالمواد و طاقاتها تختلف مع اختلاف تذبذب الأوتار ، و بذلك الكون سيمفونية موسيقية. ومن مُنطلق نموذج علمي ثالث , العالم مجموعة معلومات فكل المواد و الأحداث و العلاقات في ما بينها مُختزَلة إلى معلومات و عمليات تبادُل للمعلومات كما يؤكّد الفيزيائي بول ديفيز.
لكن من منظور نموذج علمي رابع الكون كمبيوتر مُتطوّر يحسب المعلومات المُتجلّية في الموجودات كافة كما يؤكّد عالِم الهندسة الكمية سيث لويد. من جهة أخرى يعتبر نموذج علمي خامس أن العالم مُجرّد وهم ؛ فمعلومات الكون موجودة على سطح العالم بدلا ً من أن تكون موزّعة داخله ما يُشير إلى وهمية ما نراه من وجود. و هذا ما يُصرّ عليه الفيزيائي ليونارد سسكيند.
أما الفرضية الرياضية فهي نموذج علمي سادس يرى أن الكون بُنيات رياضية مُجرّدة. هكذا من الممكن الانطلاق من عالم مادي إلى عالم أكثر تجريداً يتّصف بأنه موسيقى أو معلومات حتى نصل إلى عالم محض مُجرّد ألا و هو الكون كبُنية رياضية لكي نصل أخيرا ً إلى عالم وهمي فتكتمل عملية تصاعُد التجريد العلمي.
هذا التنوّع في النظريات العلمية يدلّ على أن الكون غير مُحدَّد كما تؤكّد فلسفة السوبر حداثة. فبما أنه من الممكن بنجاح وصف الكون و تفسيره من خلال نظريّات علمية مختلفة كالنظريّات السابقة، إذن الكون غير مُحدَّد ما هو.
لو كان الكون مُحدَّداً حينها لنجحت نظرية واحدة في وصفه و تفسيره. من هنا لامحددية الكون تُفسِّر لماذا تنجح النماذج العلمية المُتنوّعة و المُتنافِسة في وصف عالمنا. فبما أن الكون غير مُحدَّد ، إذن من الطبيعي أن ننجح في وصفه من خلال نظريّات علمية مُختلفة.
و لذلك كل النماذج المعرفية في العلوم المُعاصِرة تصبح مقبولة رغم اختلافها لكونها ناجحة في وصف و تفسير وجه من وجوه الحقيقة الواحدة. و بذلك ننجح في حلّ الخلاف المَعرفي. فكل حقيقة تتكوّن من حقائق عديدة. لذا من الممكن بحق وصف الحقيقة ذاتها بطُرُق متنوّعة. لذلك من غير المُستغرَب أن تنجح النماذج العلمية المختلفة في تفسير عالمنا ووصفه. من منظور السوبر حداثة ، الكون بكافة ظواهره غير مُحدَّد ما هو و لذا من المُتوقّع نجاح وصفه و تفسيره على أنه مادي أو معلوماتي أو سمفونية موسيقية أو بُنية رياضية أو مُجرّد وهم مُخادِع كما تفعل النظريّات العلمية. هكذا تفسِّر السوبر حداثة نجاح النظريّات العلمية رغم اختلافها. بالنسبة إلى السوبر حداثة ، رغم أن الكون غير مُحدَّد من الممكن معرفته. فلا مُحدّدية الكون تُمكننا مثلا ً من تفسير لماذا تنجح النظريّات العلمية في وصف و تفسير الكون رغم التعارُض في ما بينها.
وبذلك لا مُحدّدية الكون تُمكّننا من الحصول على المعرفة كمعرفة لماذا تنجح النظريّات رغم اختلافها. هكذا تجمع السوبر حداثة بين لا مُحدّدية الكون و إمكانية معرفته فتتخطّى الحداثة التي تؤكّد على مُحدّدية الكون و إمكانية معرفته كما تتخطّى ما بعد الحداثة التي تُصرّ على لا مُحدّدية الكون و عدم إمكانية معرفته.