الجماعات المسلحة في سوريا وأوهام الانتقال لحرب العصابات

يمكن الجزم أن انتقال الجماعات المُسلحة في سوريا إلى تكتيك حرب العصابات يُعدّ امتيازاً للجيش السوري على المديين البعيد والمتوسّط، فالفشل الأكيد لهذا النهج العسكري سيدفع حتماً كل من حمل السلاح ضدّ الدولة السورية لتبنّي خيار المُصالحة على غِرار حركة الفارك الكولومبية والجيش الجمهوري الأيرلندي وغيرها من الحركات التي وقّعت معاهدات السلام.

وأخيرا وصلت العملية العسكرية للجيش السوري وحلفائه في مدينة حلب إلى نهايتها
وأخيرا وصلت العملية العسكرية للجيش السوري وحلفائه في مدينة حلب إلى نهايتها، فبعد إحكام الطوق على المدينة ومُحاصرة المجموعات المُسلّحة داخل أحيائها الشرقية ومنع الإمدادات عنهم تمكّنت القوات الحكومية من استرجاع أكثر من 90 بالمائة من هذه الأحياء وحسم الأمور عسكرياً. المجموعات المُسلّحة التي فقدت زِمام الأمور تعهّدت بمواصلة القتال ولكن بتكتيك عسكري جديد يتجلّى بالتحوّل إلى حرب العصابات والمدن، صحيفة الوال ستريت جورنال الأمريكية نقلت عن أحد القيادات العسكرية للمُسلّحين قوله أن عدم تلقّيهم السلاح والمُساعدات العسكرية من حلفائهم سيجعلهم يتحوّلون إلى حرب العصابات والاعتماد أكثر على هجمات مُحدّدة بالإضافة إلى الكمائن والاغتيالات. ونشرت كذلك جريدة الصنداي تايمز مقالاً تُبرز فيه إرسال  المجموعات المُسلّحة المُتقهقرة عسكرياً في حلب مُقاتليها من شمال البلاد إلى أرياف دمشق لتنظيم حرب العصابات.


إن للمجموعات المُسلّحة مُبرّراتها الكثيرة في تغيير النهج العسكري القائم من حرب تقليدية إلى حرب غير نظامية، والتي تتمثّل أساساً في الخُذلان التركي الذي تغيّر موقف حكومة نظامها نحو نهج أكثر تسامحاً مع سلطات دمشق. فللأتراك همّهم الأكبر منع وصل الكانتونات الكردية في الشمال السوري ببعضها البعض وإجهاض حُلم الدولة الكردية المُستقلة، بالإضافة إلى التحوّل الكبير في واشنطن بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية والذي لا يخفي توجسّه من المجموعات المُسلّحة وسعيه إلى الهروب من مشاكل الشرق الأوسط والاهتمام أكثر بالقضايا الداخلية الأمريكية التي شكّلت جوهر حملته الانتخابية. من دون أن ننسى أيضاً تخلّي السعودية أكبر داعمي المجموعات المُسلّحة والإرهابية عن تقديم الدعم اللوجيستي والعسكري لميليشياتها بالنظر إلى حرب الاستنزاف التي تخوضها في اليمن، خصوصاً مع الضربات الموجِعة التي تتلقّاها من الجيش اليمني واللجان الشعبية. الأوربيون بدورهم قلّلوا من دعمهم السياسي للمُسلّحين لاقتناعهم أكثر من أي وقت مضى بالحل السياسي للأزمة وانعدام فُرَص الحل العسكري في إسقاط الدولة السورية بعد التدخّل العسكري الروسي المباشر.


هذه العوامل الخارجية والميدانية مكّنت الجيش السوري من استنزاف المجموعات المُسلّحة وتقليص خياراتهم بين الرجوع إلى كنف الدولة وترك السلاح أو ركوب الباصات الخضراء نحو محرقة مُرتقبة في إدلب لاحقاً والخضوع لجبهة النصرة والانضواء تحت راياتها السوداء، كل هذه المُعطيات دفعت المُسلّحين إلى التلويح بفزّاعة حرب العصابات كردّ فعلٍ يائسٍ للإيحاء بأن الحرب لم تنتهِ بخسارة حلب وسيطرة القوات الحكومية على المدن الرئيسية الكبرى. ومن خلال تحليل موضوعي للمُعطيات التاريخية والجغرافية، سيتبيّن لنا أن نجاح هذا التكتيك القتالي في سوريا ليس سوى مُجرّد أوهام وتمنيّات صعبة المنال.


من المُفارقات العجيبة في هذا الصدد أن أغلب الحركات التي تبنّت تكتيك حرب العصابات كانت يسارية مدعومة من الاتحاد السوفياتي تُقارع أنظمة ليبيرالية غربية، في سوريا المجموعات المُسلّحة تسعى إلى قلب المُعطيات التاريخية فالاتحاد السوفياتي روسيا حالياً يعتبر المنظر الرئيسي لهذا النهج العسكري كحرب فيتنام والثورة الكوبية التي تُعتبر من أكثر النتائج نجاحاً عبر التاريخ، فالروس إذن الذين يدعمون الدولة السورية على دراية تامة بهذا النمط القتالي والذي نقلوا تكتيكته إلى المؤسسة العسكرية السورية والتي بدورها نقلته إلى حزب الله الذي خلق بها انتصاراً في حرب لبنان الثانية في 2006. فالجماعات المُسلّحة باستنساخها لتكتيكات حرب العصابات لن تستطيع خلق مكاسب ميدانية أو عسكرية حاسمة على حساب الجيش السوري وحلفائه الذين مزجوا بين الوسائل العسكرية المُتطوّرة وكثافة النيران، وبين الكفاءة الميدانية لعناصرهم الأكثر تمرّساً على حرب العصابات خصوصاً في معاركهم القتالية ضدّ داعش.


تفصيل آخر لا يُمكن تجاهله يتمثّل في أن من أساسيات نجاح تكتيك الحرب غير النظامية كسب التأييد الشعبي من الساكنة المحلية التي نبذت المجموعات المُسلّحة التي ترتكز أغلبها على إيديولوجيات عقائدية مُتطرّفة أو مُتعاونة مع المُتطرّفين، كما كان الحال في أحياء حلب الشرقية التي قاتل فيها الجيش الحر جنباً إلى جنب مع النصرة والحزب الإسلامي التركستاني. وأمام تعمّد هذه المجاميع المُسلّحة استخدام المدنيين كدروعٍ بشرية ومنعهم من الخروج الآمن تضاعف السخط الشعبي للسوريين تجاههم وبالتالي فإن اعتماد المُسلّحين على حرب العصابات من أجل إسقاط الحكومة الشرعية يُمكن اعتباره رهاناً خاسراً أقرب إلى الخيال.


نقطة أخرى فاصلة ومهمة تتعلّق بطبيعة الأرض والجغرافية السورية والتي تختلف تماماً عن أدغال سايغون الفيتنامية أو غابات الأمازون الكولومبية الكثيفة، فجغرافية المكان في حرب العصابات مهمة جداً لتأمين الملاذ الآمن للمُسلّحين بعد تنفيذهم للكمائن والاغتيالات، فأغلب المدن السورية تقع في مناطق سهلية أو صحراوية مكشوفة، والمناطق الوعرة مُتمثلة في الجبال تتمركز في الساحل السوري الذي لن يُمثّل أيّ امتياز حقيقي للمُسلّحين لكون المنطقة تمثل الحاضنة الشعبية الرئيسية للقوات الحكومية السورية، السلاسل الجبلية الوعرة تتواجد كذلك في الحدود السورية اللبنانية التي لا تملك المجموعات المُسلحة أية مقوّمات لتنشيط تكتيك حرب العصابات وكلمة السرّ واضحة وجليّة تواجد حزب الله على طرفي الحدود.


لهذه الأسباب يمكن الجزم أن انتقال الجماعات المُسلحة في سوريا إلى تكتيك حرب العصابات يُعدّ امتيازاً للجيش السوري على المديين البعيد والمتوسّط، فالفشل الأكيد لهذا النهج العسكري سيدفع حتماً كل من حمل السلاح ضدّ الدولة السورية لتبنّي خيار المُصالحة على غِرار حركة الفارك الكولومبية والجيش الجمهوري الأيرلندي وغيرها من الحركات التي وقّعت معاهدات السلام. لكن النموذج السوري يبقى استثنائياً فالجماعات المُسلّحة لا تمارس ما يمكن أن نسمّيه تمرّداً أو ثورة، بل إرهاباً مُمنهجاً واضح المعالم والأهداف.