الأردن.. حين يلتقي الأميركيون والروس

عمان قطعت أشواطاً في تنفيذ التفاهمات التي تقررت في القمة الروسية الأردنية في سوتشي في 27 آب أغسطس الفائت حول العلاقات الثنائية والحرب على الإرهاب والتسوية في سوريا. الواضح أن الأردن استطاع أخيراً انتزاع توافق أميركي ـ روسي نادر على مكانة مستقلة معترَف بها ودور إقليمي خاص في قضايا المنطقة.

عمّان بدأت بتنفيذ التفاهمات التي تقررت في القمة الروسية الأردنية في سوتشي
عشيّة الزيارة التي يزمع الملك الأردني، عبدالله الثاني، القيام بها إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو أن عمان قد قطعت أشواطاً في تنفيذ التفاهمات التي تقررت في القمة الروسية الأردنية في سوتشي، في 27 آب / أغسطس الفائت، حول العلاقات الثنائية والحرب على الإرهاب والتسوية في سوريا.

في الأثناء، سلمت الولايات المتحدة للجيش الأردني، ثلاث مروحيات "بلاك هوك"، واعتبرت السفيرة الأميركية لدى عمان أن " الأردن هو أفضل حلفائنا وأكثرهم التزاما". 

حسناً، من الواضح أن الأردن استطاع أخيرا انتزاع توافق أميركي ـ روسي نادر على مكانة مستقلة معترَف بها، ودور إقليمي خاص في قضايا المنطقة. وهو ما مكّنه من إدارة ظهره للسياسات السعودية التي استخدمت ضغوط المساعدات والتيارات الوهّابية في الداخل الأردني، لإرغام عمّان على السير وراء الرياض، واستخدام المملكة الأردنية كأداة أمنية محرومة من المناورة السياسية.

ربما كان النهج الأردني الجديد حيال سوريا، هو أفضل مثال على التقاطعات الحاصلة بين التيارات العميقة في السياسة الإقليمية والدولية؛ فالمملكة الأردنية، الآن، عضو في الحلفين المتنافسين، الأميركي والروسي؛ تحصل من القوّتين الأعظم على ضمانات الاستقرار والمساعدات والمكتسبات الاقتصادية، لكن الأهمّ هو اتفاق واشنطن وموسكو على دور إقليمي مستقل ورفيع للأردن، كمنسق للجهود الرامية إلى وضع معايير الفصل بين التنظيمات الإرهابية وتلك التي تُعتَبر " معتدلة "، والتفاوض مع الأخيرة لإشراكها في العملية السياسية المزمعة في سوريا.  

العلاقات الأردنية ـ الروسية منذ العام 2000

تطورت العلاقات الأردنية ـ الروسية، منذ العام 2000، أي منذ بداية عهد النهوض الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، بصورة مضطردة، وتكوّنت علاقة ثقة بين الرئيس والملك عبدالله الثاني والمؤسستين الأمنية والعسكرية في المملكة.

ـ قدمت المخابرات الأردنية الكثير من المعلومات الأمنية الدقيقة حول الإرهابيين في الشيشان، ما ساعد حرب بوتين ضدهم وأنشأ لدى موسكو، نظرة ثقة مهنية بقدرات الأجهزة الأردنية.

ـ بخلاف العديد من الدول العربية في معسكري الاعتدال والممانعة، أظهر الروس والأردنيون، نوعا من التطابق في وجهات النظر حول الحل السلمي للقضية الفلسطينية. فبينما أظهر المعتدلون عدم الاهتمام بهذه القضية أو حتى ميولا لوجهة النظر الإسرائيلية (في مقابل سياسة الممانعة القائمة على إدامة الصراع) ، ظهر الاهتمام بأولوية قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، كبؤرة توحد موقف البلدين. فالأردن ـ الذي يعاني من استمرار تدفق اللاجئين والمهاجرين من الضفة ما يهدد المعادلة الديموغرافية الداخلية ـ يعتبر السلام والدولة " القابلة للحياة" مصلحة أردنية استراتيجية. ويمثل ذلك جوهر السياسة الروسية التقليدية منذ العهد السوفياتي.

ـ خصت موسكو، الأردن، بالتعاون الحثيث في مجال التصنيع العسكري، ويأمل الأردنيون توسيع نطاق هذه العملية، حتى تشغيل 50 ألف أردني في هذا المجال، بما يجعل البلاد مصدرا للأسلحة الحربية الصغيرة والمتوسطة (الصواريخ المضادة للدروع من نوع كورنيت). وبالنظر إلى كفاءة القوات المسلحة الأردنية، وانضباطيتها، يرى الروس أن هناك فرصة لهذا التعاون.

ـ منحت عمّان امتيازات للكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي حصلت، مثلا، على أكبر مساحة من أراضي "المغطس" (الموقع المعتقد لعمادة السيد المسيح، وهو موقع بالغ الأهمية الدينية) لبناء كنيسة ودير واستراحة تابعة لبطريركية موسكو وسائر المشرق التي أنفقت أكثر من 40 مليون دولار على أعمال بناء كنيستها الامبراطورية في المغطس.

ـ بموجب معاهدة وادي عربة بين عمان وتل أبيب، تتولى الحكومة الأردنية، الإشراف على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة، وتصدر مراسيم تعيين البطاركة المسيحيين في القدس من قبل الحكومة الأردنية التي تحتكر  حق التعيين والعزل والمساءلة القانونية. وهناك اتفاق أردني ـ روسي على ترتيب قانوني وإداري لاستعادة أملاك الكنيسة الروسية في فلسطين، تلك التي كان الاتحاد السوفياتي قد أهمل حقوق الروس في ملكيتها.

ـ تدعم موسكو المشروع الأردني لبناء مفاعل نووي لانتاج الطاقة الكهربائية في البلاد التي تعاني بشدة من فاتورة المشتقات النفطية. وقد تعهدت الرئاسة الروسية، مؤخرا، بتمويل 50 بالمائة من قيمة المشروع البالغة 10 مليارات دولار.

عمان وموسكو والأزمة السورية

ـ منذ اندلاع الأزمة السورية، ظهر أن المؤسستين العسكرية والأمنية في المملكة، تقفان ضد العمل على إسقاط الدولة السورية، ما يعد مقدمة لإسقاط الدولة الأردنية، أيضا، بأيدي الإسلاميين، وعلى هذا الأساس بقي التورّط الأردني في سوريا محدودا ومتأرجحا، بينما سُمح للقوى الأردنية المؤيدة للنظام السوري بحرية العمل السياسي والإعلامي.

ـ منذ العام 2012، كانت السياسة الأردنية تتأرجح تحت ضغوط داخلية (الإخوان المسلمون من جهة والقوميون واليساريون من جهة أخرى) وضغوط خارجية (أميركية وسعودية من جهة وروسية من جهة أخرى) وبين كل هذه الضغوط، حافظت المملكة على وتيرة منخفضة من التدخّل في سوريا، بما يضمن لها تحقيق ما يلي:

1 ضمان عدم اقتراب عناصر القاعدة وداعش لاحقا من الحدود الأردنية، ما استلزم دعم مليشيات عشائرية محلية في درعا.

2 ضمان عدم الاصطدام مع الجيش السوري.

3 ضمان الحصول على معلومات واختراق كافة التنظيمات المسلحة، المحلية والإرهابية.

4 إدارة "غرفة موك" في عمّان بما يحقق، إلى حد ما، الأهداف السابقة ويخفّف من الضغوط السعودية. وهذه الضغوط على نوعين، اقتصادية من خلال المساعدات والتجارة البينية، وأمنية من خلال تحكّم المخابرات السعودية بالعديد من الخلايا الإرهابية النائمة.

وخلال كل هذا، أبدى الروس تفهما للموقف الأردني، بينما قدم الأردنيون، الكثير من المعلومات غير المتاحة عن المسلحين والإرهابيين في سوريا والعراق. وقد استقبل الرئيس بوتين، شخصيا، عدا عن القيادات الأمنية الروسية، بانتظام، المسؤولين الأمنيين الأردنيين في موسكو، خلال الأعوام 2012 ـ 2015.

استغلّت المملكة الفشل المتكرر للهجمات على الجيش السوري في درعا، للعمل على تجميد، ولاحقا إقفال غرفة الموك، ضاربة عرض الحائط بالسعوديين، وإنما بالتفاهم مع الأميركيين. أما تركيا الأردوغانية وقطر، فقد اعتبرتهما عمان، دائما، معاديتين، في حين أن التفاهم الأردني ـ الإماراتي سار باتجاه التنسيق مع الروس.

ـ حين استقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 27 آب 2015، أبلغه بأن روسيا سوف تبدأ تدخلا عسكريا في سوريا، وكانت هذه اللحظة الحاسمة في تغيير السياسة الأردنية، جذريا، نحو سوريا. تم اغلاق غرفة موك، ووقف دعم المليشيات، وبدء التقرّب العلني من دمشق، من خلال رسالة تهنئة وتمنيات من رئيس أركان الجيش الأردني إلى نظيره السوري، وتصريحات متلاحقة تؤكد أولوية محاربة الإرهاب في سوريا، وكذلك من خلال لقاءات لم يتم الإعلان عنها عقدت في عمان مع قيادتي الجيش والمخابرات في المملكة.

الانعطافة المتسارعة

تسارعت الانعطافة الأردنية، بصورة دراماتيكية، منذ بدأت الطائرات الروسية عملياتها في سوريا.

ـ فقد وقّع الجيشان الروسي والأردني اتفاقية لسلامة الطيران وتنسيق الجهود ضد الإرهابيين وضمان أمن الحدود الشمالية، وقد ضمن الروس للأردنيين ما يلي:

1       تنسيق العمليات في الجنوب السوري مع الاستعدادات الأردنية لمنع تسلل الإرهابيين إلى المملكة.

2       ضمان عدم تدفق المزيد من اللاجئين السوريين جراء العمليات في درعا.

3       ضمان عودة اللاجئين.

ـ سمّت روسيا، بموافقة الولايات المتحدة، المملكة الأردنية كجهة تنسيق للمعلومات ووضع المعايير حول تمييز التنظيمات الإرهابية من سواها في سوريا، والتفاوض مع تلك التي تُعتبر معتدلة.

ـ وبدأت روسيا، على حدة، بإنشاء غرفة إعلامية لمكافحة الإرهاب في العاصمة الأردنية، عمّان.

ـ في المجال الاقتصادي، يمكن التأكيد على حجز مكان للأردن في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، وتحسين العلاقات الثنائية.

ـ أما في المجال الدفاعي، فمن المتوقع حصول المملكة على أسلحة روسية.

الموقف الروسي من الأردن

مطلع كانون الأول 2015، يجتمع خبراء من عدة دول معنية في عمّان، للعمل على تحديد التنظيمات التي تُعَدّ إرهابية، وتصنيفها في قائمة سوف يعتمدها مجلس الأمن الدولي، لمحاربتها وإلزام الدول الداعمة لها بالتخلي عنها.

الخبراء الأمنيون الأردنيون الذين يحظون بثقة الدولتين الأعظم في آن واحد، سيلعبون دور المنسق العام لهذه العملية التي يتضافر فيها جانبان، أمني ـ تقني وسياسي.

 في الجانب الأول، الأمني ـ التقني، هناك إجماع بين الدوائر الأمنية الدولية، على القدرات الاحترافية للمخابرات الأردنية في مجال المعلومات حول التنظيمات الإرهابية وشبه الإرهابية. لكن علينا أن نلاحظ أن موسكو كانت قادرة على الإفادة من المساعدة التقنية الأردنية، في إطار ثنائي، غير سياسي.

 

غير أن القيادة الروسية أرادت أن تمنح للأردن دورا سياسيا في الجهود الإقليمية والدولية لمحاربة الإرهاب. وبذلك، يكون الدور الأردني الأهم، في الجانب الثاني، السياسي. ومن الواضح أنه توفرت لدى الروس الثقة بتطابق التوجهات السياسية بين موسكو وعمان، حول المعايير الموضوعية لتحديد المنظمات الإرهابية من سواها التي يمكن اعتبارها تنظيمات مسلحة غير إرهابية في سوريا والعراق. وقد كانت لعمان تجربة مع معظم تلك التنظيمات، سواء بصورة مباشرة أو عن طريق الاختراق.

اللافت أن الحلفاء التقليديين للأردن، كالولايات المتحدة وأورويا والعربية السعودية، ظلّوا مصرين، طيلة الوقت، على التعامل مع الفعالية الأردنية كعامل وظيفي في خدمة مخططاتهم، بينما ألحّ الروس على دور سياسي للأردن في عملية أمنية عسكرية سياسية محورية على النطاق الدولي. وكتتويج لمسار ابتدأ بالاتفاق المعقود بين الجيشين، الأردني والروسي، للتنسيق العسكري في الجو وفي المنطقة الحدودية مع سوريا، ومنح الأردن دورا أمنيا وسياسيا في الحرب على الإرهاب، دفعت موسكو باتجاه اعتماد عمان كمفاوض رئيسي مع المعارضة السورية " المعتدلة".

تنظر موسكو إلى الأردن كبلد صديق، وتقدر منحى الاعتدال السياسي والاستقرار والفعالية الأردنية المفتوحة على احتمالات استثمارية والوضع المستقر للمسيحيين الأردنيين. لكن المزاج السياسي والإداري في الأردن ما يزال متجمدا في حقبة الواحدية القطبية والأيديولوجيا النيوليبرالية. في الواقع، نحن نحتاج إلى نخبة سياسية جديدة قادرة على التعامل مع عالم جديد.

للملك عبدالله الثاني، تصريح بليغ حين قال إن " وجود روسيا في المنطقة أصبح واقعا لا يمكن تجاهله، وينبغي التعامل معه."  المؤسستان، العسكرية والأمنية، لديهما الدينامية اللازمة لهكذا تعامل، وقد بادرتا إليه. لكن المؤسسات الأخرى جامدة عند دروس وأوهام غربية، عفا عليها الزمن.

إذا لم تكن الولايات المتحدة في طريقها للانسحاب من الشرق الأوسط، فمن الواضح أنها تسلّم، اليوم، بميزان جديد للقوى يأخذ بالاعتبار تنامي الحضور الروسي والقدرات الاستثمارية الصينية. لم يحدث هذا التسليم اقتناعا، وإنما اضطرارا, فبعد حوالى خمس سنوات في استخدام كل الوسائل السياسية والإعلامية والإرهابية لإسقاط الدولة السورية، وكسر القاعدة الرئيسية للروس والإيرانيين في المنطقة عبر تحطيم الجيش السوري وحلفائه في حزب الله، اصطدمت المحاولات الأميركية بالجدار، فعلى الضد من كل التوقعات الغربية ، صمد السوريون وحلّ الجيش الأحمر في سوريا وخرجت التنظيمات الإرهابية عن السيطرة وتحولت إلى تهديد إقليمي وعالمي بالغ الخطورة. هذا المشهد هو الذي قرر محور السياسة الدولية الآن، باعتباره محور الحرب على الإرهاب. وقد منح الروس للأردنيين مكانا ومكانة في هذه العملية الكبرى. 

العلاقات الأردنية ـ الأميركية

ـ لم يعترض الأميركيون، سبيل تطور العلاقات الأردنية ـ الروسية، للأسباب التالية:

1       الاعتراف الفعلي بفشل استرتيجية اسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.

2       الاعتراف الفعلي بعدم قدرة الولايات المتحدة على تقديم ضمانات أمنية للحليف الأردني في مواجهة خطر الإرهاب المتمادي نحو المملكة.

3       الاعتراف الفعلي بعدم قدرة الولايات المتحدة على تلبية احتياجات الأردن في المشروعات الكبرى، وخصوصا في حقل الطاقة، في حين أن التحالف الروسي ـ الصيني قادر على تلبية تلك الاحتياجات الاستثمارية الضخمة.

4       غير أن السبب الرئيسي للتفهم الأميركي الضمني لتحالف المملكة الأردنية مع روسيا، يتعلق بالضمانات الروسية المتعلقة بعدم تحويل منطقة الجولان وجنوب سوريا إلى منطقة أمنية للمقاومة بقيادة حزب الله، والدعم الروسي للسياسة السلمية الأردنية.

5       وفي المدى المتوسط، تريد الولايات المتحدة أن يتحرر الأردن من الضغوط السعودية، وحتى الإفادة من الاعتدال الديني والثقافي للمملكة الهاشمية في مواجهة التطرف الوهابي السعودي.

العلاقات الأردنية ـ السعودية

ـ حتى في أفضل أوقاتها، لم تكن العلاقات الأردنية ـ السعودية، لتخلو من الأحقاد التاريخية والشكوك المتبادلة، والاستياء الأردني من شروط التعامل المهينة مع المسؤولين الأردنيين الذين يؤمون السعودية بحثا عن مساعدات،

ـ حتى في أفضل سنوات الدعم السعودي للاقتصاد الأردني، كان هذا الدعم دون المأمول ومتذبذبا ومشروطا بصورة خانقة.

ـ في الملف الفلسطيني، لم تدعم السعودية، في أي وقت، الدور الأردني أو المصالح الأردنية.

ـ وفي الملف السوري، كان هناك، منذ 2011، خلافات بين الأردنيين والسعوديين حول مجمل السياسات والشؤون والميدانية معا.

ـ على هذه الخلفية، وبسبب اتهامات توجهها الرياض لعمان بأنها قدمت دعما استخباريا وسياسيا للأمير متعب، فقد تهاوت العلاقات الأردنية ـ السعودية إلى الأسوأ.

ـ ثم جاء رفض الأردن إرسال قوات إلى اليمن، ليزيد من حدة النقد السعودي لعمان.

ـ بالمقابل، نظر الأردنيون إلى مساعي السعودية لاستقطاب الإخوان المسلمين مجددا، نظرة سلبية، شاركهم فيها الإماراتيون الذين يدعمون توجهات الأردن الروسية.