العلاقات الإيرانيَّة السعوديّة بعد تولّي رئيسي الرئاسة الإيرانية
في الوقت الذي كانت طهران تتلقى برقيات التهنئة من جيرانها الخليجيين، غابت برقيتا السعودية والبحرين حكماً، إلا أن البرقيات الإماراتية كانت تشي بأنَّ الرغبة السعودية في تحسين العلاقات على حالها.
"لمن لا يريدوننا هنا". بِلافتة حملت هذا الشعار، أراد أحد الناخبين الإيرانيين أن يوصل رسالته أثناء إدلائه بصوته. يختزل المشهد حال الناخبين الإيرانيين عموماً. بطوابير مصطفة، كان الناخبون يخوضون فصلاً جديداً من فصول مواجهة مفتوحة ضدهم منذ عقود، لم يخلوا يوماً ساحاتها.
في ظرف من أحلك الظروف التي تعيشها الجمهورية الإسلامية، أتي فوز إبراهيم رئيسي حاسماً، كنتيجة لانتخابات تجنَّد الإعلام المعادي لإيران بكامله للتحريض على مقاطعتها. أكثر من 250 قناة إعلامية ناطقة بالفارسية، تبث من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وصولاً إلى الإمارات، كانت تخاطب الشعب الإيراني بلغته لتيئيسه، مستثمرة أصعب ظروف اقتصادية تعيشها البلاد، إلا أنَّ الخيبة أتت لتثبت مرة جديدة أنَّ أعداء إيران لا يزالون قاصرين عن فكّ شيفرة شعب الثورة المتَّقدة التي لم تعرف شيخوخة بعد.
بعد ساعات من إعلان فوزه الحاسم، خرج رئيسي عارضاً تصوّره لإدارة شؤون البلاد، كخطة نهوض اقتصادي وسياسي بعد جمود أفرزته سياسة التركيز على المفاوضات مع الغرب. الانتقادات التي كانت تتردَّد في الصّحف والإعلام، وفي النقاشات السياسية المحتدمة داخلياً، لطالما ردَّت الأزمات في عواملها الداخليّة إلى تركّز اهتمامات روحاني وطاقمه السياسي على حلّ المشاكل العالقة مع المجتمع الدولي، على حساب الملفات الأخرى. وقد أثمرت مساعيهم اتفاقاً نووياً لم يلتزم به الأميركيون وانقلبوا عليه جذرياً.
بغضّ النظر عن سياسة التركيز على القدرة الذاتية داخلياً التي ثبَّتها رئيسي كعناوين في برنامجه الانتخابي، والتي يعوّل عليها لإسناده في سياساته الخارجية، إلا أن ثمة جملة تساؤلات فرضها صعوده، من بينها مستقبل المحادثات الإيرانية السعودية.
في أوّل مؤتمر صحافي عقده، كان الرئيس الإيراني المنتخب واضحاً في التأكيد أنَّ حكومته ستولي دول الجوار الأولوية في توطيد العلاقات، مضيفاً أنَّ "إيران لا تمانع عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية"، التي دعاها إلى "وقف هجماتها التي تستهدف المدنيين والبنى التحتية في اليمن"، مشيراً إلى أن "اليمنيين هم أصحاب القرار في كيفية حكم بلاده".
كلام رئيسي لطالما تكرَّر على لسان أكثر من مسؤول إيراني. ورغم اختلاف أولويات روحاني ورئيسي، فإنَّ لغة عدم استعداء الجوار ومنطق اليد الممدودة لدول المنطقة كانا أحد الثوابت الدبلوماسية الإيرانية، إلا أنَّ أبواب الرياض بدت موصدة. وقد كانت تقايض الانفراجة الإقليمية بشروط لا تلتقي مع إدارة طهران لعلاقاتها إقليمياً؛ ففي الوقت الذي كانت السعودية تبرر عدوانها على اليمن بأنه تصدٍّ للنفوذ الإيراني المتمدد إقليمياً، كانت الرياض تشترط على طهران الضغط على "أنصار الله" للقبول بشروطها لوقف الحرب، في قصور سعودي مستحكم عن فهم علاقة طهران بحلفائها في الإقليم.
تفجّر الأزمة وتبدّل اللهجة
في العام 2016، تفجرت الأزمة بين السعودية وإيران بشكلها العلني. قطعت الأولى علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، وطردت البعثة الدبلوماسية الإيرانية من أراضيها في العام 2016، وذلك عقب هجوم متظاهرين غاضبين على السفارة السعودية في طهران بعد إعدام الشيخ نمر النمر.
وفي إثر القرار السعودي، خفّض حلفاء السعودية تمثيلهم الدبلوماسي لدى إيران، كخطوة تضامنية، إلا أن الشرارة الفعلية كانت قد اندلعت عقب توصّل إيران ومجموعة دول "5+1" إلى التوقيع على الاتفاق النووي في العام 2015. وبكل ما امتلكته من أوراق، كانت الرياض تقود حربها ضد الاتفاق تحت الطاولة وفوقها أيضاً.
وتعبيراً عن الحنق السّعودي، توجَّه رئيس الاستخبارات السعودية سابقاً تركي الفيصل بخطاب نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، بتاريخ 14 آذار/مارس 2016، مخاطباً الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما: "لقد انحرفت بالهوى إلى القيادة الإيرانية إلى حدّ أنك تساوي بين صداقة المملكة المستمرة لثمانين عاماً مع أميركا، وقيادة إيرانية مستمرة في وصف أميركا بأنها العدو الأكبر والشيطان الأكبر، والتي تُسلّح وتموّل وتؤيد الميليشيات الطائفية في العالمين العربي والإسلامي، وما تزال تَأوي قيادات "القاعدة" حتى الآن، وتمنع انتخاب رئيس في لبنان من قِبَلِ "حزب الله" المصنَّف من حكومتك بأنه منظمة إرهابية، وتمعن في قتل الشعب السوري العربي؟".
وذكّر الفيصل الرئيس الأميركي يومها: "نحن من يشتري السندات الحكومية الأميركية ذات الفوائد المنخفضة التي تدعم بلادك. نحن من يبتعث آلاف الطلبة إلى جامعات بلادك، وبكلفة عالية، لكي ينهلوا من العلم والمعرفة. نحن من يستضيف أكثر من 30 ألف مواطن أميركي، وبأجور مرتفعة، لكي يعملوا بخبراتهم في شركاتنا وصناعاتنا".
وفي أيار/مايو 2017، كان الموقف السعودي المعادي لإيران واضحاً من أعلى الهرم، إذ قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في إحدى مقابلاته: "لا توجد نقاط التقاء يمكن أن نتفاهم فيها مع هذا النظام" في إيران، مضيفاً: "لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة في إيران".
وفي العام 2019، دعت السعودية إلى انعقاد قمتين عربية وإسلامية وجّهتهما ضد إيران، متهمة الأخيرة بالوقوف خلف هجمات استهدفت ناقلات نفط قبالة سواحل الإمارات، واستهداف مصافيها النفطية. وعلى أساس مبدأ العداء المشترك لإيران، كانت السعودية وحلفاؤها يمضون في مسار تحالفات بدت أكثر انكشافاً، فكانت اتفاقيات التطبيع مع العدو من قبل كل من الإمارات والبحرين والمغرب، وأخذ الحديث عن إنشاء تحالف إسرائيلي سعودي يتحول إلى مادة حضرت في تقارير أكثر من وسيلة إعلام إسرائيلية، مثل "الجيروزاليم بوست" وقناة "آي 24" الإسرائيلية وغيرهما.
في المقابل، كانت الخارجية الإيرانية تؤكد أن الدور السعودي يزعزع أمن المنطقة، من خلال دعم المملكة للمجموعات التكفيرية، ومن خلال عدوانها الذي يستهدف اليمن ويوقع المجازر بحق المدنيين والأطفال. وفي مواقف صريحة، كانت إيران تؤكّد أن تعديل السلوك السعودي ضرورة بالنسبة إلى السلام والاستقرار في المنطقة، إلا أنه في خريف العام 2019، ومقابل التصعيد الذي ذهبت إليه السعودية، طرح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف "مبادرة هرمز للسلام" بين إيران والدول العربية في الخليج، على أساس عدم التدخل في شؤون الغير، وعدم الاعتداء، والالتزام بأمن الطاقة، والاحتكام إلى القانون الدولي.
رغم ذلك، لم تحظَ المبادرة بأي تجاوب من الجانب السعودي. وتكرر عرض ظريف للمبادرة نفسها عقب تسلم جو بايدن الرئاسة الأميركية. وبعد أيام قليلة، أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده عن استعداد إيران للتفاوض مع السعودية إذا غيرت مسارها، مؤكداً أن بلاده مستعدة للتعامل مع مخاوف السعودية بشأن إيران.
في 9 نيسان/أبريل الماضي، خرجت تسريبات عن لقاءات ثنائية جمعت الجانبين الإيراني والسعودي في بغداد، شارك فيها ممثلون من المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يحدد السياسات العليا والاستراتيجية القومية للجمهورية الإسلامية، وممثلون عن وزارتي الخارجية والمخابرات والمؤسسة العسكرية الإيرانية.
أجرى الجانبان 3 جولات من المحادثات. تلا ذلك زيارة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، شملت العراق وقطر والكويت وسلطنة عمان. ونقل الإعلام يومها في تصريحاته بوادر إيجابية قريبة لحلحلةٍ في ملفات المنطقة. لم يتوقف المشهد على زيارات ظريف وحدها، فقد لاقته تصريحات لمحمد بن سلمان، قال فيها إن إيران دولة جارة، وإنَّ بلاده تريد علاقة طيبة معها.
وعلى الرغم من التصريحات الإيجابية والمبادرات الإيرانية، فإنَّ انفراج العلاقات بين البلدين لم تظهر له أية بوادر فعلية. ورغم إعلان وزير الخارجية الإيراني عن استعداده لإرسال سفير عن بلاده إلى الرياض خلال منتدى أنطاليا الدبلوماسي، لم يخرج أي رد علني من الرياض.
الانفراجة تنتظر الرئيس الجديد
في تقرير نشره "طهران تايمز"، فند فيه مسار العلاقات الإيرانية السعودية، رأى الموقع الإيراني أن صمت الرياض إزاء مبادرات طهران لن يدوم طويلاً، متوقعاً أن يتعاطى السعوديون مع وصول رئيسي إلى سدة الرئاسة كفرصة لإعادة العلاقات الجيدة بين البلدين.
وعلل الموقع ما ذهب إليه من استنتاج بأنَّ السعوديين لطالما أعربوا "عن استيائهم من افتقار روحاني المزعوم إلى القوة لإحداث تغيير حقيقي في الوضع الراهن للعلاقات الإيرانية السعودية، لكن مع تولي رئيسي المنصب في آب/أغسطس، لن يكون لديهم أي عذر لرفض عروض إيران بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين".
وبعيداً من مسار تدهور العلاقات على خطّ طهران – الرياض وتحسّنها، ثمة عوامل مؤثرة تحكم العلاقات بين الجانبين، تبدأ من مصلحتهما في تثبيت الاستقرار الأمني في المنطقة، ويعزّزها التوصل إلى حل ينهي الحرب على اليمن، وهو ما ظهّرته وساطات سلطنة عمان الفاعلة مؤخراً، وسط كلام يخرج من دوائر مقربة من الدوحة عن أن العاصمة القطرية تتحضر لاستضافة محادثات مباشرة بين "أنصار الله" اليمنية والجانب السعودي. ولعلَّ العامل الثابت في التحكّم في العلاقة بين البلدين، هو الموقف الأميركي الذي يراعيه بشدة - حالياً - ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع اقتراب وصوله إلى العرش.
وإزاء التأثير الأميركي الحاضر على خطّ ضبط العلاقات، منذ إيران الشاه، وصولاً إلى تفجيرها بحرب صدام حسين ضد إيران، يحضر الحماس الأميركي الذي بدأ يسارع خطاه تجاه إبرام الاتفاق النووي، سواء بما تمَّ تسريبه عبر موقع "إكسيوس" بأنَّ إدارة جو بايدن ترغب في إبرام اتفاق للعودة إلى الاتفاق النووي في غضون 6 أسابيع، أي قبل تولّي رئيسي مهامه، أو حتى بما نقلته وكالة "بلومبرغ" عن مسؤول في إدارة بايدن، بأنَّ عودة واشنطن إلى المحادثات حول الملفّ النوويّ قد تبدأ من الأسبوع المقبل.
وفي الوقت الذي كانت طهران تتلقى برقيات التهنئة من جيرانها الخليجيين، غابت برقيتا السعودية والبحرين حكماً، إلا أن البرقيات الإماراتية كانت تشي بأنَّ الرغبة السعودية في تحسين العلاقات على حالها، بانتظار حسم الملفات العالقة على ضوء أخضر أميركي.