فوز كاستيو في البيرو: هزيمة جديدة لأميركا
إننا نشهد اليوم موجة صعود ثانية وقوية لقوى اليسار والاشتراكية في مختلف أنحاء أميركا الوسطى والجنوبية.
ثمة حربٌ طاحنة تدور رحاها في جميع أنحاء قارة أميركا الوسطى والجنوبية بين الولايات المتحدة بأذرعها الاستخباراتية والاقتصادية والإعلامية من جهة، والقوى اليسارية / الوطنية / الشعبية في القارة اللاتينية من جهة أخرى.
وثمة أسباب عميقة الجذور تجعل نظرة الشعوب اللاتينية إلى الـ"يانكي" الأميركي مليئة بالشكّ والتوجّس والخوف الدائم من مآرب وغايات الولايات المتحدة في القارة التي تعتبرها منطقة نفوذ لها، ولا بدّ من أن تكون خاضعة وتابعة لها، وأن تقوم بدورها كمورّد للمواد الخام الرخيصة وسوق استهلاكية لشركاتها الكبرى، فالمواجهة الصريحة والصراع المباشر بين الولايات المتحدة والقوى الثورية اللاتينية ليسا أمراً جديداً، ذلك أنهما يرجعان إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع غيفارا وكاسترو والثورة الكوبية، وأيضاً ثورة الساندينيستا في نيكاراغوا في الثمانينيات.
مع بداية الألفيّة الثانية وصعود هوغو تشافيز بشكل ديمقراطي سلميّ في فنزويلا، دخلت المواجهة بين الطرفين طوراً جديداً، فبعد أن كان شكل المواجهة يكاد ينحصر في صراع عسكريّ بين حركات ثورية مسلحة وأنظمة ديكتاتورية مدعومة من أميركا، تحول إلى مواجهة شعبية/ سياسية بين قوى منتخبة ديمقراطياً تعبّر عن الأغلبية وأميركا ذاتها كدولة عظمى.
لقد صمد نظام تشافيز، وتمكَّن من إحباط كل المؤامرات الأميركية لإسقاطه (قائد الانقلاب في فنزويلا في العام 2001 كان صديقاً شخصياً لجورج بوش الأب، وكان يذهب معه في رحلات صيد السمك). وبذلك، بدأ تأثيره يمتدّ إلى أنحاء القارة اللاتينية، إذ صار تشافيز يعتبر الخليفة الشرعي والوريث لتراث فيديل كاسترو، والنتيجة كانت صعود قوى يسارية / اشتراكية إلى الحكم في العديد من دول الجوار، منها بوليفيا والأوروغواي والإكوادور، إضافةً إلى البرازيل؛ أكبر دول القارة. من جانبها، لم تسكت أميركا، بل انخرطت في معارك ضارية على جميع الجبهات، لإحباط المدّ اليساري وأنظمته الصاعدة في أميركا اللاتينية.
بهذه الخلفيّة، يأتي الخبر من البيرو بفوز المرشح اليساري المناضل بيدرو كاستيو في الانتخابات الرئاسية، ليتوّج سلسلة من الانتصارات حققتها القوى اليسارية / الاشتراكية / الشعبية في السنوات الأخيرة، بما يمكن اعتباره عودة جيدة بعد فترة من التراجع، بفعل الضربات التي وجّهتها أميركا والقوى التابعة لها. بيدرو كاستيو المعلّم الذي جعل قلم الرصاص شعاراً لحملته، انتصر على مرشّحة المال والأعمال المدعومة من أميركا، وسليلة أسرة فوجيموري ذات النفوذ والأصل اليابانيّ.
في ما يلي تلخيص للتطورات الإيجابية التي حقَّقها معسكر اليسار الديمقراطي في أميركا اللاتينية مؤخراً:
في بوليفيا، تمّت إطاحة الرئيس اليساري ذي الأصول الهندية إيفو موراليس عن طريق انقلاب في العام 2019، نفَّذه الجيش بالتعاون مع اليمين المسيحي، ما اضطرّه إلى اللجوء إلى المكسيك، ولكن لم تمضِ سوى سنة حتى كان اليسار يعود بقوّة، ويستلم الحكم من جديد، عن طريق الانتخابات التي أدت إلى فوز حليف موراليس ورفيقه القديم لويس آرسي، ليعود بعدها موراليس إلى بلده معزّزاً مكرماً.
وفي كوبا، تمّت عمليَّة انتقال السلطة من آل كاسترو إلى الجيل الجديد من أبناء الثورة، ممثّلين بميغيل دياز، بسلاسة ونجاح.
وفي فنزويلا، بذل ترامب ومستشاره بولتون جهداً فائقاً للإطاحة بالحكم اليساري ممثلاً بخليفة تشافيز، نيكولاس مادورو، ورتّبا انقلاباً فظاً بواسطة عميلهما رئيس البرلمان خوان غايدو، الَّذي أعلن نفسه رئيساً، وحصل على اعتراف أميركي (وأوروبي) به كرئيس، لكن الحكم الوطني صمد ببطولةٍ وتماسكٍ إلى أن أفشل المسعى الأميركي. والآن، انتهى خوان غايدو تماماً، وتحوَّل إلى إحدى فضلات ترامب السياسية.
وفي نيكاراغوا، ما زال حكم الساندينيستا اليساري قائماً منذ أن عاد في العام 2006، بعد أن نجح في سلسلة انتخابات في العامين 2011 و2016، برئاسة الثوري القديم دانييل أورتيغا، الَّذي صمد في وجه ضغوطات جماعة أميركا وتحدّياتها، ممثلة بابنة الرئيسة اليمينية السابقة تشامورو.
وفي الأرجنتين، استلم الرئيس اليساري ألبيرتو فرنانديز الحكم بعد فوزه بانتخابات العام 2019 على الرئيس الليبرالي ماكري. وفي تشيلي، هناك مؤشّرات لصعود يساريّ قادم، فقد تقدمت قوى اليسار بنسبة 33% مقابل 21% لقوى اليمين الحاكم في انتخابات الجمعية التأسيسة لصياغة دستور جديد، والتي جرت الشهر الماضي.
وفي البرازيل، تمّت إطاحة الرئيسة اليسارية المناضلة دلما روسيف عن طريق مكائد ومؤامرات برلمانية، ومن ثمّ تمَّ تعيين ميشال تامر اللبناني الأصل كرئيس مؤقت، قبل أن يأتي اليميني وصديق ترامب بولسونارو إلى الرئاسة، اعتماداً على دعايات وحملات فجّة مليئة بالأكاذيب، لكن الآن بدأت الأمور تتغيّر بسرعة.
وتفيد كلّ الأخبار الواردة من البرازيل تفيد بأنَّ الرئيس اليساري العتيد لولا داسيلفا، معلّم دلما، قد يكون في طريقه للعودة إلى الرئاسة؛ فقبل شهرين، أصدر أكبر قضاة المحكمة العليا قراراً بإلغاء إدانة لولا داسيلفا بالفساد وإعادة حقوقه السياسية، ما يعني إمكانية ترشّحه إلى الرئاسة في العام 2022 ضد الرئيس الحالي بولسونارو، الذي يعاني تدهوراً شديداً في شعبيته ومكانته، كما أن الاستطلاعات تعطي لولا تقدماً بنسبة 50% مقابل 38% لخصمه.
وفي المكسيك، صعد اليسار إلى الحكم للمرة الأولى بعد الفوز التاريخي الذي حقَّقه الرئيس مانويل أوبرادور في أواخر العام 2018 على اليمينيين من حلفاء أميركا.
يترافق ذلك الصّعود اليساريّ في أنحاء القارة مع الاضطرابات التي تشهدها كولومبيا، معقل الحكم اليميني في أميركا اللاتينية، والّتي بدأت منذ العام 2019 كحملة تظاهرات شعبيَّة احتجاجاً على الاغتيالات التي طالت ناشطين، وعلى ظروف الصحّة والتّعليم... وقد تجدَّدت هذه التظاهرات الشهر الماضي، وبشكل أعنف، ما أسفر عن مقتل 40 شخصاً واعتقال الآلاف، الأمر الذي يشير إلى احتمال قرب سقوط نظام اليمين الحاكم فيها.
إننا نشهد اليوم موجة صعود ثانية وقوية لقوى اليسار والاشتراكية في مختلف أنحاء أميركا الوسطى والجنوبية. وتبدو مشاعر التضامن والأخوّة اللاتينية بين شعوب القارة قوية جداً، في مقابل الـ"يانكي" الأميركي الَّذي يواجه أوقاتاً عصيبة في القارة التي لطالما اعتبرها حديقته الخلفية.
ولّى زمن جمهوريات الموز يا أميركا.