"سد النهضة".. المتعدد الأغراض
على القيادة المصرية، التي كانت حتى وقت قريب جداً، ترفض الملء الثاني لـ "سد النهضة"، أن تعي حجم الضرر على حاضر مصر ومستقبلها، وأن تطرح كل الخيارات، بما فيها العسكرية، كأولوية لها.
"السد المتعدد الأغراض".. هو عنوان دراسة بشأن إمكان بناء سدّ للنيل الأزرق، سعته التخزينية ضخمة، تصل الى أربعة وسبعين مليار متر مكعب. تم الانتهاء من الدراسة في معهد أبحاث جامعة كامبريدج البريطانية في منتصف عام ٢٠٠٩، بتكليف من الحكومة الإثيوبية.
وهذا العنوان، في حد ذاته، يدحض أيّ مفاوضات بخصوص السدّ، تنحصر في الملء والتعبئة فقط، بل يثير الجدل بشأن إيقاف التدفُّق الطبيعي للنهر.
إذا بحثنا في تاريخ هذا الأمر، فسنجد أن هذه الدراسة ليست المحاولة الأولى لبناء سدّ على النيل الأزرق في إثيوبيا، بل كانت البواكير الأولى في عام ١٩٥٧، أي بعد قيام ثورة يوليو بخمس سنوات فقط، وبتخطيط من الولايات المتحدة الأميركية التي عزمت على إنجاز أول دراسة بشأن إمكان إنشاء سدود على النيل الأزرق، نكايةً بمصر، مع تنامي دورها في الإقليم، وقتها، ودورها المساند والمؤيّد لحركات التحرر الوطني، فضلاً عن أنّ مصر كانت حينها، في هذا السياق التاريخي، حليفاً قوياً للاتحاد السوفياتي، الذي يمثل النقيض الرئيسي للأهداف والسياسات الأميركية. وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الى هذا السلوك العدائي تجاه مصر، فقامت بالتخطيط لبناء أربعة سدود على النيل الأزرق، وكلَّفت في ذلك الحين جامعة كولورادو الأميركية إعدادَ الدراسات اللازمة لإمكان إنشاء سدّ، لكن مع إبقاء الأمر غير معلن.
ومع تاريخ تحويل مجرى نهر النيل تحديداً، وبالتزامن مع بدء مصر بناءَ السد العالي في أسوان عام ١٩٦٤، تمَّ الإعلان عن أوَّل السدود، باسم سد "الحدود"، في دلالة عدائية واضحة، لكن بقدرات محدودة وأهداف محدَّدة، وبسعة تخزين لا تزيد على ١٢ مليار متر مكعب.
ماذا فعلت مصر؟
بالرغم من محدودية كميات التخزين، فإنها جعلت القيادة المصرية آنذاك تستشعر القلق من خطورة تمادي تلك السدود، وما يتبعها من أزمات "قد" تسبّب إشكالية مستقبلية، الأمر الذي جعل مصر، عبر قوتها الناعمة وزعامتها للقارة الأفريقية "وقتها"، تعمل على إغلاق كلّ المسامات، من خلال هذا الأمر مع إثيوبيا، عبر استيعابها.
فقام الزعيم جمال عبد الناصر بتأسيس الاتحاد الأفريقي، ثم جعل العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، مقراً له، وحرص على إقامة أفضل العلاقات بإمبراطور إثيوبيا، هيلاسلاي.
حتى إنّ الشعب المصري لم يرَ السيدة تحية عبد الناصر إلاّ عندما استقبلت زوجة الإمبراطور الإثيوبي، وهو الذي ظهر حافي القدمين، ويبكي، في جنازة الزعيم المصري.
وفاة عبد الناصر
بوفاة عبد الناصر، تبدَّلت السياسات، وأخذت مصر في العزلة الممنهجة، من جانب الرئيس أنور السادات. وانحسر الدور المصري في أفريقيا تدريجاً، وبدأت القاهرة تخليها عن دورها الطبيعي والمؤثّر، كزعيمة للقارة السمراء.
سدّ "الحدود"
مع تراجع مشهود للدور المصري في أفريقيا، نشطت محاولات جديدة في سبعينيات القرن الماضي لبناء سد "الحدود" على النيل الأزرق. وبالرغم من تراجع النفوذ المصري فإن القاهرة كانت حاسمة في ذلك الأمر، وهدَّدت فوراً باستخدام القوة العسكرية. وتكرَّر هذا الأمر في عهد الرئيس حسني مبارك في أكثر من مناسبة، حتى تمّ إغلاق هذا الملف الخلافيّ من الجانب الإثيوبي.
السدّ المتعدِّد الأغراض
عاد الملف، مرةً أخرى، إلى النور، لكن هذه المرة عبر الدراسة المذكورة أعلاه (السد المتعدد الاغراض) في عام ٢٠٠٩، والتي تمّ العمل على اتخاذ قرار البدء في تنفيذ هذا المشروع الذي أنجزت دراسته في عام ٢٠١١، لكن هذه المرة بظهور الكيان الصهيوني في الصورة. ووجدنا بنيامين نتنياهو في البرلمان الإثيوبي، يعلن شراكته في النهضة الإثيوبية المزعومة، مستغلاً الفراغ الذي خلَّفته مصر في أفريقيا.
المشروعية القانونية للسد الإثيوبيّ
بالرغم من مساندة الكيان الصهيونى لها، فإن إثيوبيا لم تتمكَّن من تنفيذ مشروع السدّ بسبب عدم وجود مشروعية قانونية لبنائه وفق تلك المواصفات الضخمة. فكل الاتفاقيات التاريخية مع دول المصب نصّت على ما يحفظ لكل هذه الدول حقها الطبيعي في مياه النيل، استناداً إلى مبدأ الحقوق الطبيعية والبيئية بالتدفق الطبيعي للنهر، الأمر الذي يعزّز موقف دول المصب، فضلًا عن وجود اتفاق تاريخي بين "مملكة مصر" والسودان وإثيوبيا في عام ١٩٠٢، تنازلت بموجبه "المملكة المصرية" ـ حينها - عن أرض الفشقة، وهي الأرض الصالحة لبناء السدود عليها، وذلك في مقابل عدم قيام إثيوبيا نهائيّاً ببناء أيّ سد في تلك المنطقة، وفقاً لبنود الاتفاق الموقعة من جانب الإمبراطور الإثيوبي.
وكانت إثيوبيا في ذلك الوقت دولة مستقلة ذات سيادة، على عكس ما يروّج الجانب الإثيوبي حالياً، إذ يقول إنها في ذلك الوقت كانت محتلة. ونصّ الاتفاق على أن "كل كمية مياه نهر النيل ملك لمصر والسودان"، وأن يتم استكمال دفع مصر كامل أقساط هذه الأرض، التي تم شراؤها قبل الاتفاق، وتم دفع آخر قسط في عام ١٩٥٩م.
اتفاق إعلان المبادئ
هناك في دول المصبّ إشكالية تاريخية، فكيف يتخلصون منها، وكيف يجعلونها عديمة النفع؟ دفع هذا الأمر الإثيوبيين الى الحوار للتخلص من هذه الإشكالية التاريخية مع دول المصب، حتى تمكنت إثيوبيا من أن تكتسب شرعية بناء السد في عام ٢٠١٥، بعد توقيع دولتي المصب (مصر والسودان) على اتفاق عُرف بـ "باتفاق إعلان المبادئ"، وصادق عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السودانى عمر البشير. وخرج الرئيسان بعد التوقيع يبشّران الشعبين بأن المشكله انتهت، وبموجبها حققت إثيوبيا غايتها عبر إنجاز اتفاق أنهى عقبة كبيرة كانت تواجهها. فبعد هذا الاتفاق لا حوار بشأن "الاتفاقات التاريخية"، فلقد أنهى الرئيسان صلاحية كل الاتفاقات السابقة، وأصبح "نصّ الاتفاق" الجديد هو الوحيد الذي يحتكمون إليه.
ماذا بعد الاتفاق؟
تمسَّكت إثيوبيا بهذه الاتفاقية، واعتبرتها طوق النجاة من الاتفاقيات السابقة ومن حزمة القوانين الدولية المنظِّمة لتدفق لمياه وملكيتها، والتي تُلزمها باحترام حصة دول المصب، الأمر الذي جعل الجانب الإثيوبي يرفض أي وساطة إلا عبر الاتحاد الأفريقي، المنحاز إلى جانب إثيوبيا، من دون أسباب موضوعية تُذكَر.
"متعدِّد الأغراض"
بالنظر الى العنوان، أي "متعدّد الأغراض"، فمن المعروف أنَّ لأيّ سدّ أهدافه المعروفة والمحدَّدة علناً. ولقد نُشرت الدراسة "منقوصة" من كامل الأغراض الأساسية للسد، واكتفت باعتبار أن توليد الطاقة والريّ، هما الغرضان الطبيعيان المعلنة أهدافهما. لكن هناك أغراضاً مستترة كشفت عن نياتها، بدءاً من اللوحات التي تمّ تصميمها سراً في إيطاليا، وتم تسميته فيها "سد أكس"، ثم أُعلن لاحقاً بعد الانتهاء من تصميمه، أن اسمه هو "سد الألفية"، وأخيراً "سد النهضة"، وذلك لمحاولة تسويقية محلياً على أنه سيجلب معه النهضة للشعب الإثيوبي. وتمّ تجييش الرأي العام العالمي بأنه مخصَّص لأغراض التنمية. وهنا يستحضرنا السؤال الموضوعي: هل ستستفيد إثيوبيا فعلياً من هذا السد؟
هل ستستفيد لإثيوبيا فعلياً من هذا السد؟
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج الى شرح مطوَّل. لكن بعد الاطِّلاع على عدة دراسات تبيَّن أن المساحة المستهدف استزراعها هي مليون وثمانمئة وستون ألف فدان فقط. ووفقاً لمعايير الري الدولية، لا تستهلك اكثر من ١٢ مليار متر مكعب فقط من سعة التخزين، أي ما لا يزيد على ٢٠٪ من إجمالي مياه النهر. وقد تتخطى تكلفة ري الفدان الواحد ما يزيد على خمسمئة دولار بسبب صعوبة التضاريس ونقل المياه ورفعها إلى أعلى عبر محطات الضخ. وهذه التكلفة غير اقتصادية، بالنسبة إلى الإنتاج الزراعي عموماً. ولأن السد يقع عند طرف البلاد، فعملية نقل الكهرباء منه الى أماكن الحاجة إليها تحتاج إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار، وهذا ليس في مقدور ميزانية إثيوبيا، وليس مدرَجاً حتى في خطة الحكومة.
إثيوبيا تلجأ إلى الاستثمار في المياه
لجأت الحكومة الإثيوبية إلى الاستثمار الزراعي، وبيع الكهرباء، في محاولة للاستفادة من هذا الفائض الضخم من المياه، وذلك عبر الاستثمار المباشر من السعودية، التي أطلقت مبادرة في عام ٢٠٠٨، على لسان الملك عبد الله وقتها، من أجل الاستثمار الزراعي في الخارج لتأمين غذاء السعوديِّين المتزامن مع نقص المياه لديهم.
في إثر ذلك، سلَّمت الحكومة الإثيوبية السعودية مليون هيكتار لزراعتها، بالإضافة الى توصيل الكهرباء عبر كابل يمر من اليمن لتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للطاقة.
وبالنظر الى أن إثيوبيا دولة غير شاطئية، فلقد تولَّت هذا الأمر الإمارات، وهي تعمل جاهدة على إصلاح ميناء "بربرة" الصومالى، ليصبح متنفَّساً طبيعياً للتجارة الخارجية من إثيوبيا وإليها، بالإضافة إلى الخطط الزراعية عبر توجيه شركات الاستثمار الزراعي، على خطى السعودية.
سؤال بريء!
سؤال آخر يطرح نفسه هنا، هو: هل عائدات الاستثمار في المياه والكهرباء تَفي بالغرض من بناء هذا السد، كما أعلنت إثيوبيا ؟!
في الحقيقة، أكدت كثير من الدراسات أن عائدات الاستثمار غير مُجْدية إذا قورنت بالتكلفة الإجمالية لبناء السد وحجم الإنفاق الضخم فيه.
التكلفة الضخمة لبناء السدّ توحي بشيء آخر!
التكلفة الإجمالية للسدّ تفوق عائدات الكهرباء والاستثمار الزراعي. ومن المعروف اقتصادياً أن من غير المعقول أن تضع الدولة كل مواردها وطاقتها الاقتصادية في مشروع واحد، فهذا يضر خُطَط التنمية المتوازية، ويضر اقتصاد إثيوبيا القومي. وظهرت الآن نتائجة عبر الضعف الاقتصادي والتقشف الشديد، وخصوصاً أن حجم الاستثمارات لن ينقذ الأمر في النهاية. وهذا ما يؤكد أن الغرضين المعلَنين (الطاقة والري) غير كافيين للاستفادة من السد، وهذا يعزز فرضية "الاغراض المستترة"، من إنشائه وتعاظم دوره.
أكذوبة الوعد بالرخاء واللعب بأحلام الإثيوبيين!
إذاً، بعد الاطِّلاع على أهداف هذا السد الأولية، ونتائج دراسات الجدوى منه، يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده أنّه مثّل أكذوبة كبرى للإثيوبيين أنفسهم. وبقياس حجم الضرر الواقع عليهم جرّاء بنائه، واستنزاف طاقاتهم الاقتصادية، فإنه لا يقارَن بالأضرار التي يمكن أن "تصيب" دولتي الممر والمصب، وهنا أتحدَّث عن مصر التي يسكنها أكثر من ١٠٠ مليون نسمة، معتمدين في اقتصادهم على الزراعة.
الأضرار التي ستلحق بدول المصب
إن استمرار السد على هذا النحو معناه أن يحدث تبوير للأراضي الزراعية في مصر، وزيادة في البطالة الزراعية، وازدياد في الفجوة الغذائية، وزيادة في ميزان المدفوعات بسبب استيراد الغذاء، وتوقف كهرباء السد العالي، وزيادة تلوث مياه النهر المتبقّية بسبب عدم جريانه.
وستنشأ حالة من التطاحن بين مصر والسودان بسبب المياة المتبقية، لأن المياة الراكدة يسهل استخدامها وتنظيمها في السودان، وهي في الحقيقة دولة ممر وليست دولة مصب للنهر، ولا تتضرر إلا في فترة الملء فقط. إذاً، نحن أمام سد ذي تصميم عدائيّ تجاه مصر تحديداً.
استهداف مصر واستنزافها أولاً
في الحقيقة، إنّ هذا الأمر لا يمكن تناوله بمعزل عما يحدث من استهداف لأمتنا العربية، في ساحاتها المتعددة. فالصورة أصبحت الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فعدوك التاريخي يستهدف مواردك بغرض إضعافك وتركيعك، ثم من أجل تحقيق أغراضه.
وفي هذا الإطار، فإنّ مسار المفاوضات لا يُجدي نفعاً، وخصوصاً بعد تبييت النية من إنشاء السد عبر عقود طويلة وأغراض مزيفة وغير موضوعية .
وعلى القيادة المصرية، التي كانت حتى وقت قريب جداً، ترفض الملء الثاني للسد، أن تعي حجم الضرر على حاضر مصر ومستقبلها، وأن تطرح كل الخيارات، بما فيها العسكرية، كأولوية لها، لأن الأمر لا يحتمل الميوعة أو المماطلة في حسم قضية تستهدف وجود الإنسان المصري وحضارته وحياته.