هل يهرب نتنياهو من أزمته إلى الحرب؟
الساعات القادمة ستحدّد طبيعة الموقف العسكري ومداه في ساحة قطاع غزة وفي المنطقة.
تحاصر بنيامين نتنياهو مجموعة من الأزمات، معطوفة على أزمة بنيوية تتحكّم في مفاصل الحكم في "إسرائيل". لطالما شكّلت الحروب، سواء في "إسرائيل" أو لدى غيرها من الأنظمة، وسيلةً لتصدير الأزمات والهروب من استحقاقات داخلية أو تأجيلها.
على رأس أزمات نتنياهو ملاحقته القضائية في ثلاثة ملفات فساد، تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة وعجزه عن تشكيل حكومة. أمّا "إسرائيل" فتعاني أزمة قيادة، حوّلتها من كيان يقوم على أُسس عقائدية إلى كيان يخدم شخصاً بعينه، بحسب تعبير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
وعلى الرَّغم من سعيها لجني ثمار التطبيع وتوظيف منجزاته، فإن تل أبيب تمرّ في مشاكل مستعصية وأزمات بنيوية، وصفها السيد نصر الله في خطابه الأخير بـ"علامات الأُفول والوهن والضَّعف"، فهي تعيش حالة من الغموض فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وتعيش عدم استقرار سياسي بعد انتخابات رابعة لم تتوَّج حتى الآن بتشكيل حكومة مع احتمال التوجه نحو انتخابات خامسة، من دون أفق أو ضمانة للوصول إلى خاتمة. يجري هذا في وقت تكثر الإشارة، في الإعلام العبريّ، إلى حرب أهلية محتملة كامنة داخل المجتمع الإسرائيلي المنقسم، والذي بات يميل أكثر نحو الفاشية والتطرّف.
إلى ذلك، تُقلق تلَّ أبيب التغيّراتُ التي تحدث في البيئة الإقليمية لمصلحة محور المقاومة، في وقت تتابع بقلق مسار استئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي وتبعاته، وانعكاسات ذلك على قدرات محور المقاومة من جهة، وتقلّص هيمنة "إسرائيل" من جهة أُخرى، في مرحلة بدأت الولايات المتحدة تدرس تقليص التزاماتها في المنطقة وفق أولويات جديدة.
بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، اقترح مركز بيغن - السادات على تل أبيب بذل قصارى جهدها لإبطاء فكّ ارتباط واشنطن بالمنطقة، وإعادة حضورها إلى الشرق الأوسط.
وسط هذه المعطيات والظروف، انفجرت المواجهات في القدس المحتلة بين إرادتين. نقف اليوم أمام حالة استعصاء نتيجة التطورات التي فرضت نفسها على المشهد الفلسطيني، وتحديداً داخل القدس المحتلة وانطلاقاً منها، وربما نكون على أعتاب سخونة عسكرية متصاعدة قد تتدحرج أكثر إنْ لم يتمّ لجمها.
بدأ المشهد بإصرار المستوطنين والصهاينة المتطرفين وقوات الاحتلال على اقتحام حرم المسجد الأقصى في سلسلة استفزازات بلغت ذروتها مع اكتمال الاستعدادات الإسرائيلية لإحياء "أسبوع القدس" الإسرائيلي، والذي بدأ يوم الجمعة الماضي وينتهي بعد أيام، ويتضمن يوم القدس العبري الذي يحتفل فيه الإسرائيليون بتوحيد شطري القدس المحتلة (9 أيار/مايو)، و14 أيار/مايو، اليوم الذي أعلنت فيه الحركة الصهيونية قيام "إسرائيل" في سنة 1948.
في المقابل، يُصرّ الفلسطينيون، أكثر من أي يوم مضى، على الدفاع عن الأقصى وحي الشيخ جراح، بالتوازي مع دخول المقاومة في غزة على الخطّ عبر تحذير واضح وشديد اللهجة لـ"إسرائيل".
الاحتلال كان يدرك أن غزة لن تصمت عن العدوان على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وهو تأهب وزاد في استنفاره. والسؤال على طاولته تحوّل من: هل سينفّذ القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف تهديده؟ إلى: كيف؟ ومتى؟ وأين؟
تعزَّز ذلك بعد أن حذّرت قيادة المقاومة في الغرفة المشتركة الاحتلالَ، وأعطته مهلةً حتى السادسة من مساء الإثنين لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، والإفراج عن كلّ المعتقلين خلال هبّة القدس الأخيرة، ثم نفّذت وعيدها في الوقت المحدَّد، وأطلقت رشقات صاروخية في اتجاه منطقة القدس المحتلة.
وسائل إعلام إسرائيلية ذكرت أن إطلاق الصواريخ على القدس المحتلة تمّ في الساعة التي صادق فيها المجلس الوزاري المصغَّر على عملية واسعة لـ"جيش" الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة.
في إثر كلام الضيف وطوال الأيام الماضية، مارست أطراف دولية وإقليمية ضغوطاً لمنع غزة من التدخل. وبحسب مصادر صحافية مواكبة، فإن ردّ غزة المتوقَّع كان بإحالة السؤال إلى ملعب الاحتلال، فهو من يسعى لتفجير المنطقة، وعلى من يحرص على عدم التوتير منعه لأنه هو من يتحمّل المسؤولية.
لم تكن المقاومة، على مدى الأيام الماضية، في عجلة من أمرها، وهي تشاهد بطولة المقدسيين وصمودهم، وحالةَ التضامن العالمي التي تتزايد مع الوقت، وتطوُّرَ الموقف الدولي المندد بالاحتلال. من الطبيعي أنها سعت، والحال هذه، لتركيز الصورة على القدس المحتلة في الأيام الماضية، إضافة إلى فتح المجال لتفعيل ساحات الفعل، شعبياً وميدانياً، في الضفة الغربية، وكذلك لتحريك الشعوب العربية والإسلامية والرأي العام الدولي لمصلحة قضية القدس.
الساعات القادمة ستحدّد طبيعة الموقف العسكري ومداه في ساحة قطاع غزة وفي المنطقة. حتى الآن، هناك مؤشرات على نجاحٍ فلسطيني في إجبار العدو على تغيير مساراته. ويبدو من المشهد العام أن المبادرة باتت في أيدي المقاومين، من القدس إلى غزة إلى كل المنطقة، أكثر من أي وقت مضى. لقد أجبرت هذه التطورات "الجيش" الإسرائيلي على تعليق مناورة "مركبات النار" التي أطلقها صباح الأحد، وهي المناورة الأكبر في تاريخه. ويأتي ذلك بالتوازي مع حديث إسرائيلي عن فراغ سلطوي وعزلة في المؤسسة الأمنية في مقابل رؤية شاملة وواضحة يمتلكها محور المقاومة.
على المستوى الشخصي، يمكن أن يستفيد نتنياهو، في حال الحرب، عبر الهروب إلى الأمام، وقد ينجح في تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسته، لكنّ ذلك لن يكون، في أفضل الأحوال، أكثر من دواء مسكّن لمرض عُضَال. فإلى أي مدى ستستمر هذه الحكومة بعد انتهاء الجولات القتالية؟
أيضاً، من المهم الإشارة إلى أن قرار الحرب في "إسرائيل" لا يقتصر على رئيس الحكومة الإسرائيلية وحده، بل يشمل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية. وعليه، فإن هذه المستويات مجتمعة تتحمّل مسؤولية أي فشل أو تبعات ناتجة من قرار الحرب، كما حصل إثر حرب تموز 2006 وما تبعها من تقرير "فينوغراد" وتحميل للمسؤوليات. وعليه، فإن القادة العسكريين يضعون نصب أعينهم هذه الاعتبارات مع وجود طموحات سياسية في أوساط من يفكرون لاحقاً في الانتقال إلى ممارسة أدوار سياسية.
فيما مضى، كانت الحرب التي تبادر إليها "إسرائيل" لتشكّل مَخرجاً لأزماتها الداخلية أو أزمات قادتها، لكنّ طبيعة الأسئلة، في هذه المرحلة، باتت مُغايِرة، فمَن سيضمن أن تخرج "إسرائيل" من المعركة منتصرةً؟ ومن يضمن ألا تتعمّق الأزمات أكثر بعد كل جولة قتالية؟