مدينة الـ"لا طبقيين": لماذا تربكهم طرابلس؟
معظم هؤلاء هم فقراء لا يعرفون أساساً كارل ماركس، وعلى الأغلب لا يكترثون، ولكن في انعدام تلك المعرفة تأكيد على هويتهم الماركسية.
"يا فقراءَ طرابلس، اتّحدوا!". جملة وردت في مقدّمة قناة "الجديد" ليلة 28 كانون الثاني/يناير، عبرت مسامع اللبنانيين كطيف، إذ إن الذين اتّحدوا هم الأثرياء الذين لم يتركوا منبراً إعلامياً أو مصطلحاً استنكارياً لا يتخطى البعد اللغوي الفارغ إلا واستعملوه لمطالبة القوى الأمنية بالتدخل لحماية مجمّعاتهم وممتلكاتهم التي اقتحمتها مجموعة من الأشخاص المجهولي الهوية، وهم مجهولون ليس لأنهم جناة، بل لأن من استنكر لم يعرف يوماً الطرابلسيين، لا عن قرب ولا عن بعد.
دعونا نسأل اليوم: من هم فعلياً هؤلاء الطرابلسيون؟
بالأرقام، أصبح الجميع يعلمون أن طرابلس واحدة من أفقر مدن الشرق الأوسط. وهوية الطرابلسيين كمجموعة أهم منها كأفراد، إذ إن قيمتهم أصبحت عددية بشكل بحت؛ أداة لإجراء الإحصائيات المحلية والدولية، ولكن من هم؟
ابتكر الفيلسوف الألماني كارل ماركس مصطلح "لومبن بروليتاريا" (lumpen proletariat) أو "ما دون البروليتاريا"، كي يصف حالة شعب وصل عنده اللاوعي الطبقي إلى درجة الانحدار خارج التصنيف الطبقي كلياً.
معظم هؤلاء هم فقراء لا يعرفون أساساً كارل ماركس، وعلى الأغلب لا يكترثون، ولكن في انعدام تلك المعرفة تأكيد على هويتهم الماركسية. وقد أتى المفكر المارتينيكي فرانتز فانون بعد ماركس بنحو مئة عام (في العام 1963 تحديداً)، ليضخّ في هؤلاء الـ"لا طبقيين" نفساً ثورياً آتياً من دراسة اجتماعية معمّقة وعابرة للماركسية.
بخلاف ماركس، عندما يتحدث فانون عن اللاوعي الطبقي، فإنه يعني مجموعة أشخاص نبذتهم الطبقة الحاكمة، كما نبذتهم أيضاً الطبقة العاملة، إذ إنها تعتبرهم بسبب فقرهم/إفقارهم غير قادرين على الارتقاء إلى أدنى المستويات المطلوبة (العلمية، الثقافية، اللغوية... لباسهم، لهجتهم، اهتماماتهم) للمشاركة في أي نقاش له تأثير في المستوى الوطني، لأن أولويات البقاء هي شغلهم الشاغل، وبالتالي فإنهم لا يملكون القدرة على الاكتراث لمشاكل الوطن، فيوضعون على الحياد. والحياد نادراً ما يتسرّب إلى فجوات الوعي الجماعي، حتى لو سُلّطت عدسات الكاميرات والهواتف الذكية عليه من وقت إلى آخر.
تطرح اليوم تساؤلات عديدة عن استخدام الأجهزة الأمنية أشرس أساليب القمع ضد الطرابلسيين، والتي وصلت شراستها إلى صفحات المجلة الصادرة عن الاتحاد الشيوعي التروتسكي في فرنسا، واصفة إياه بـ"القمع على الطريقة الفرنسية"، فهل توجد علاقة بين ثائري طرابلس و"لومبن" فانون تستطيع أن تبرّر ارتباك مفوّضي المنظومة وخوفهم؟
أولاً، إن صراع أبناء المدينة مع إمكانيات البقاء المتاحة لديهم ولّد تأثيراً واضحاً في نسبة تعاطيهم في الشأن السياسي الذي يترجَم بعدم قدرتهم على رؤية صلة الوصل بين السياسة والحياة اليومية، وهو الذي يختلف عن نظرة بقية المجتمع اللبناني الذي يعد على يقين من هذه الصلة، ولو كان يرى بوضوح الخلل الذي تآكلها.
من الناحية السلبية، إن الخضوع التام لضرورات البقاء يلغي جزءاً كبيراً من إمكانيات المعرفة عند الطرابلسيين عمّا يتقرر بالنيابة عنهم. يجدر بالذكر، على سبيل المثال، أن جزءاً كبيراً من المجتمع البريطاني، وبكل ما يتمتع به من ثقافة، لم يكن يدري على ماذا كان يصوّت عندما قرر دعم قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما أشارت العديد من الدراسات والإحصائيات، فما هو حال شعب يفتقر إلى أدنى مكونات المعرفة؟
إيجابياً، يترجَم هذا الصراع بانعدام الدعم الكلاسيكي الفعلي لأحزاب قائمة على إيديولوجيات تتخطى مصالح الفرد المباشرة. تشكل الأحزاب اللبنانية على وجه الخصوص استثناء لأسباب الوجود الحزبي في العالم، إذ إنها أصبحت مهووسة بالإيديولوجيا، إلى درجة أنها طغت كلياً على مصلحة الفرد، ليس لصالح الوطن (وذلك يبرر غاية وجودها)، ولكن لخدمة الإيديولوجيا ذاتها، والإيديولوجيا فقط (هذا إذا افترضنا أن قضيّتهم نبيلة).
إن القومية والعروبة والتغريب وسياسة المحاور وحقوق الطوائف، ومؤخراً التدويل، كلها مبادئ تعبّر عن إيديولوجيات وهمية وواهمة تكتسب قوّتها من خلال الادعاء أن هوية المجموعة، بغضّ النظر عن حجمها، أعلى شأناً من هموم الفرد، ويجب الدفاع عنها بأي ثمن. والسبب الرئيسي لنجاحها في تحقيق هذا الهدف هو أن لبنان المنقسم طائفياً يشكل بيئة حاضنة، لا بل مثالية، لهيمنة الإيديولوجيا على الفرد.
الفئات الطرابلسية الأكثر فقراً محصّنة من هيمنة الإيديولوجيا بسبب فقرها، أي بسبب انشغالها بصراع البقاء.
ثانياً، العلاقة تتعلق بتاريخ المدينة. لم تشهد طرابلس نزوحاً من الريف إلى المدينة، كما هو حال شقيقتها بيروت، وبالتالي لم تنتِج العصبيات التي تتشكل على قواعدها التجمعات الحزبية الطائفية كالفطريات السامة، وذلك بفعل طابعها المديني المتواصل. إن فعل فرض الحاضر لنفسه في حياة هؤلاء الناس يسهّل استثمار اندفاعهم إلى العمل، إذ إن تعلّقهم بالماضي يرتبط حصرياً بالحفاظ على التقاليد، ولا يرتبط بالحفاظ على أي تراث سياسي.
وإن كان يُعرف عن المناخ السياسي القائم في المدينة بأنه داعم لخطّ سياسي معروف، فهو بالطبع ليس من باب المعرفة التامة أو الاقتناع بتفاصيل التوجه السياسي هذا، بل بسبب الخلط بين التقليد والطائفة. هذا خطأ، في رأيي، إذا أردنا مقارنته مع الأسباب العنصرية الطائفية والمناطقية التي تبرّر دعم فئات مجتمعية أخرى لأحزابها.
ربما السبب الذي جعل زعماء المدينة والقوات الأمنية ينتفضون بهذا الصخب هو أن المنظومة تعرف أن الطرابلسيين الـ"لا طبقيين" الـ"لا إيديولوجيين" والـ"لا عصبيين" يشكّلون، إلى جانب النقابات، أحد الهياكل الاجتماعية الأساسية التي تسبب تهديداً جدياً لها، إذ إنها تدرك قدرتهم الاستثنائية على التنظيم العفوي والالتفاف حول فكرة إسقاطها.
الطرابلسيون اليوم بحاجة إلى شيئين: أولاً، من يقودهم نحو فك الرابط بين التقليد الذي يجب الحفاظ عليه والسنيّة السياسية. وثانياً، من يساعدهم على الخروج من الانزواء والحصار داخل الحصار المفروض عليهم من قبل مفوّضي المنظومة.
اليوم، يجب على طرابلس أن تصدم المنظومة. 35 موقوفاً اتُهموا جماعياً بالإرهاب في 22 شباط/فبراير عقب أحداث كانون الثاني/يناير، والعقوبة التي تنتظرهم تتراوح بين السجن 10 سنوات على الأقل والسجن المؤبد، وقد تصل إلى الإعدام. المعركة تبدأ هنا. معركة تحويل القضية من طرابلسية - فئوية إلى طرابلسية - شاملة.
في 24 شباط/فبراير، بدأت مناورات المنظومة، عبر التذرّع بانقطاع الإنترنت كي يرجئوا الجلسات المقررة لدراسة هذا الملف. الرد يتطلب صدمة. تلك الصدمة يجب أن تأتي من التفاف الطرابلسيين حول رفض العنف الذي مارسته السلطة تجاه من أوقفتهم، ومن إسقاط جماعي للشرعية التمثيلية للعوائل الطرابلسية التي تعتقد أنها تملك هذه الشرعية إلى آبد الآبدين، عبر الدعوة إلى مؤتمر مشترك لفعاليات المدينة الدينية المسلمة والمسيحية وغير الدينية، تعمل على استبدال تسمية "قلعة المسلمين" بـ"قلعة الثائرين"، وتنتج شرعية تمثيلية جديدة بعيدة عن السنّية السياسية.
وعلى من يقودهم إلى هذا الهدف أن يعيد تعريف عمله السياسي والانتقال من مواكبة كلاسيكية للأحداث الجارية والانتظار لـ"قطفها"، أي استخدام أدوات المنظومة، إلى الوساطة والوصل بين مختلف طبقات المدينة، وخصوصاً في الأيام الهادئة نسبياً والبعيدة عن مخالب الإعلام، حيث قدرة استيعاب وتقبل وفهم غاية المجهود تكون في أعلى مستوياتها. على فقراء طرابلس أن يتّحدوا، ولكنهم ينتظرون شرارة كي يفجّروا الصدمة في وجه منظومة لم تأخذهم يوماً في الحسبان.
مراجع
-Peter Hayes. “Utopia and the Lumpenproletariat: Marx's Reasoning in ‘The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte.’" The Review of Politics. 1988, Vol. 50, No. 3 (Summer, 1988), pp. 445-465: 446.
- https://www.lutte-ouvriere.org/breves/repression-des-manifestants-au-liban-le-savoir-faire-francais-154337.html
-https://arstechnica.com/tech-policy/2016/06/brexit-google-search-trends-tech/
-https://www.independent.co.uk/voices/brexit-theresa-may-leave-voters-remain-eu-referendum-campaign-deal-a8740526.html
- https://www.theguardian.com/politics/2016/jul/07/voters-eu-referendum-did-not-know-what-they-were-voting-for-oona-king
- Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. Trans. Richard Philcox. Grove Press, New York: 2004 [1963].