الأزمة اللبنانية والبحث عن مكامن الحلول

ما يتمتع به لبنان من موقع جيوسياسي وجيواقتصادي، وكذلك منعته الأمنية المتمثلة بقدرة الردع العالية، وتوفر عناصر جيدة لتأمين اللحمة الوطنية، إضافة إلى موارده الطبيعية، كل هذه العوامل قادرة على تشكيل أرضية ممتازة للانطلاق في معركة الإصلاح والتغيير.

  • رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري حاملاً مسودة قائمة المرشحين للمناصب الوزارية - 14 فبراير 2021 (دالاتي ونهرا)
    رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري حاملاً مسودة قائمة المرشحين للمناصب الوزارية - 14 فبراير 2021 (دالاتي ونهرا)

بدايةً، من الضروري التسليم بأمرين رئيسيين؛ الأول أن وجود أزمة وطنية في أي بلد هو بحدّ ذاته أمر طبيعيّ، سواء كانت تلك الأزمة سياسية أو غير سياسية، والآخر أن تشخيصها واجتراح الحلول المعالجة لها، بما يضمن تأجيل مفاعيلها أو التخفيف من وطأتها، هو من أساسيات العمل السياسي والواجبات الوطنية التي لا بد من أن تتحرك دائماً بالتوازي مع ملفات الإنماء والتطوير.

في لبنان، كشفت التداعيات المتلاحقة للأزمة الوطنيّة وما حملته من مواقف وتصريحات متباينة عن وجود 3 اتجاهات تشخيصية، وبالتالي، 3 اتجاهات للحلول مختلفة في الشكل أو المضمون.

تلك الاتجاهات المتوفرة في تشخيص الأزمة اللبنانية، والتي تعتبر - رغم تباينها - وطنية، ما دام أصحابها قد انطلقوا من ثوابت وقناعات راسخة، توزعت على 3 محاور تشخيصيّة، إذ قارب الأول الأزمة بوصفها أزمة نظام، والثاني بوصفها أزمة إدارة وحكم. أما الثالث، فاعتبرها أزمة سياسية عاديّة وعابرة لا تحتاج إلى أكثر من ترسيخ الثوابت وترتيب الأولويات.

في توصيف الحالة، يرى الفريق الأول، وعلى رأسه حزب القوات اللبنانية، أن طبيعة النظام السياسي القائم على مبدأ الديمقراطية التوافقيّة بصيغة الطائف هي سبب الأزمة، وأن الحلّ يكمن في استبدال نظام ديمقراطي قائم على الفيدراليّة به.

ويرى الفريق الثاني المتمثّل بالتيار الوطني الحرّ، أنّ تغيير نظام الحكم الحالي عبر زيادة صلاحيات الرئاسة الأولى وإصلاح الإدارات العامة من خلال قوانين وتشريعات جديدة هو الحلّ الأنسب لمعالجة الأزمة الوطنية.

أما الفريق الثالث المتمثّل بالثنائي الشيعي والعديد من الأحزاب الوطنية، وعلى رأسها الحزب التقدمي الاشتراكي، فإنه يرى أن المكتسبات والمميزات التي يتحلّى بها لبنان، سواء كانت ذاتية أو موضوعية، هي عبارة عن جملة عوامل يمكن التعويل عليها لتخطي الأزمات، شرط تأكيد الثوابت الوطنية وترسيخها مع باقي الأطراف، وترتيب الأولويات ضمن رؤى استراتيجيّة موضوعيّة.

أما تيار المستقبل، والذي يعدّ جهة وازنة ويملك كتلة نيابية كبيرة، فهو لا يملك حتى الآن رؤية وتفسيراً واضحاً وصريحاً لطبيعة الأزمة ومكامن الحلول، أو لا يريد على الأقل الإفصاح عن رؤيته، ضماناً لمكتسبات سياسية حزبية، أو ربما وطنية!

في تشخيص الحالة، لا بد أولاً من الاعتراف بأن من الطبيعيّ وجود طرف أو أكثر يرى بوجود خلل في أصل النظام السياسي. هنا، من المنطقيّ عدم انتظام عجلة الحلول السياسية أو الإداريّة، ما دام الحلّ يكمن في أصل ذلك النظام وما قد أفرزه من مجموعة حاكمة لا تلبي التطلعات الوطنيّة، ولكن هل ينطبق هذا التشخيص على الحالة اللبنانيّة؟ 

بالتأكيد لا. ما لم تتم تجربة انتظام العجلة السياسية والإداريّة مع وجود استراتيجيات وطنيّة تندرج في مستوى تحديد سياسات عامة يتمّ تطبيقها من خلال برامج تنمويّة كاملة وصحيحة، فإن الذهاب باتجاه حصر المشكلة في النظام السياسي اللبناني هو أمر مرفوض حتى الآن وسابق لأوانه.

من جهة ثانية، معظم الأحزاب المشاركة في مختلف البلدان الديمقراطية ترفع شعار التغيير والإصلاح (باستثناء تلك التي تعتبر أن أصل المشكلة ينحصر في بنيوية النظام). تلك الأحزاب المشاركة، سواء كانت في السلطة أو المعارضة أو ضمن صيغة توافقية كالصيغة اللبنانية، ستواجه أمراً اختلافياً صحياً، لن يكون سببه بالتأكيد التمييز بين المشكلة أو عدمها، بل ترتيب الأولويات اللازمة في المقاربة الموضوعيّة، كي يتم انتقاء الحلّ الأسلم والأفضل الذي يدفع البلد عن حدود المشاكل ويؤجل الأزمات ويخفّف تداعياتها.

هنا نستطيع أن نقول: إذا ما أجمع اللبنانيون على ضرورة تأجيل البحث في موضوع شكل النظام ريثما تتضح الصورة، ووجهوا طاقاتهم باتجاه الإصلاح في بنيوية مؤسسات الدولة وشكل الحكم على أساس ترتيب الأولويات. حينها، سيكون الاهتمام موجهاً نحو القواعد التي سيتم من خلالها ضبط الأولويات بالشكل الذي يضمن تكاملها وعدم تضاربها، كما يحصل حالياً في لبنان.

لقد طرح أحد الفرقاء اللبنانيين هذه الصيغة، وهو فريق المقاومة المتمثل بالثنائي الشيعي وجملة من الأحزاب والنخب الوطنية، متجنباً الاشتباك مع الآخرين، بالدعوة إلى المشاركة عبر الحوار والطاولة المستديرة، ومقاربة الأولويات الوطنية انطلاقاً من البتّ في استراتيجية الدفاع الوطني، ولكن بقيّة الأطراف تنصلت من هذه الدعوة لتعاود الارتكاز على رؤاها الخاصة البعيدة كل البعد عن استراتيجيا صون الوطن وبناء دولة المؤسسات.

يعتبر فريق المقاومة أن الأزمة اللبنانية هي ناتج طبيعي لأمرين رئيسيين؛ الأول هو عدم الارتكاز على عناصر القوّة المتوفرة كعوامل وطنية جديرة بإبعاد شبح الأزمات أو التقليل من مفاعيلها، والآخر عدم تفعيل ما يلزم من الرؤى الاستراتيجية التي يتم من خلالها تحديد المهام الوطنية والعمل وفقها، بعيداً من المهاترات ولغة التخوين الدارجة!

نعم، إن ما يتمتع به لبنان من موقع جيوسياسي وجيواقتصادي، وكذلك منعته الأمنية المتمثلة بقدرة الردع العالية، وتوفر عناصر جيدة لتأمين اللحمة الوطنية، على رأسها العمل وفق مبدأ المشاركة وعدم الإقصاء، إضافة إلى موارده الطبيعية، وأهمها الماء والغاز، كل هذه العوامل وغيرها قادرة على تشكيل أرضية ممتازة للانطلاق في معركة الإصلاح والتغيير، بالشكل الذي يضمن استقلال القرار الوطني والعمل وفق مبدأ الاعتماد على الذات وعدم الارتهان للخارج.

أيضاً، إن وضع سياسات إنمائية مرتكزة على رؤى استراتيجية وطنية كاملة على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، ومرتبة بحسب الأولويات الصحيحة، والتي يقع على رأسها الأولوية الأمنية الضامنة لاستقلالية القرار السيادي وحرية التصرف وفق مقتضيات "المصالح الوطنية أولاً"، سيبعد لبنان عن حافة الهاوية، ويعيده إلى سابق عهده، عندما كان من أهم الدول العربية الصاعدة.