ألمانيا.. حقبة جديدة لميركل من دون ميركل
بثّت أنجيلا ميركل حيوية جديدة في الميدان الأوروبي، في سعي نحو "استقلال" أوروبي لم يكن ممكناً قبل ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
14 عاماً كانت كافية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لتصنع نهجها الخاصّ في الحوكمة، والذي سيدوم تأثيره في عقيدة ألمانيا السياسية لفترة طويلة، بغض النظر عمن يخلفها في الانتخابات الألمانية العامة في شهر أيلول/سبتمبر المقبل؛ الموعد الذي حدَّدته للخروج من الحلبة السياسيّة.
تعلَّمت المرأة القادمة من شرق ألمانيا إلى غربها أساليب العمل السياسي بسرعة قياسية، وقادت حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لنحو عقدين من "يمين الوسط" إلى وسط أقرب إلى اليسار منه إلى اليمين. وفي خضمّ الاضطرابات الاقتصادية والسياسية الكبرى والدولية، استطاعت الحفاظ على قوة الاقتصاد الألماني ومكانته كواحد من أقوى اقتصادات أوروبا، إن لم يكن أقواها.
المواظبة على الحفاظ على مكانة ألمانيا الاقتصادية ترافقت مع ما أرسته بالمراكمة في السياسات الداخلية التي اجتمع حولها الألمان باطمئنان، ومن توجهات خارجية نحو أوروبا جعلت موقع الاتحاد الأوروبي أكثر قوةً وتأثيراً في المسرح الدولي، الذي يفيض باهتزازات ألحقت متغيرات كبيرة بموازين القوى.
الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهو من الأمور المسلم باستمرارها بين الجمهور الألماني، وتنشيط السلطات الأوروبية التنفيذية على قاعدة "ما هو جيد لأوروبا مفيد لألمانيا"، عززا معاً خلفية لهيمنة برلين على القرار الأوروبي في ملفات اقتصادية وسياسية وحقوقية، في سياق تمايز الحدّ الأدنى عن سياسات واشنطن في مقاربة الصراعات الدولية الساخنة.
أتاح صلف وعنجهية السلوك الأحادي الفظّ لإدارة دونالد ترامب خلال السنوات الأربع المنصرمة أمام حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء فرصة إيجابية للبحث عن نظام دولي جديد أكثر تعدديةً وعدالةً يضمن الاستقرار والسلام، بدلاً من سياسات الحظر العقابية الجائرة التي مارستها واشنطن على من تعتبرهم بمنزلة الأعداء أو الحلفاء، فلا فرق في ذلك أمام "فكر الغطرسة الترامبي" الذي أطاح بالكثير من القيم والأخلاقيات في السياسة وغيرها في الداخل الأميركي وخارجه، ولم تصل العلاقة بين ضفتي الأطلسي إلى السوء الّذي وصلت إليه في عهد إدارة ترامب على امتداد التاريخ الحديث.
إضافةً إلى ذلك، بثّت أنجيلا ميركل حيوية جديدة في الميدان الأوروبي، في سعي نحو "استقلال" أوروبي لم يكن ممكناً قبل "الترامبية"، أو على الأقل لم تكن الحاجة إليه ملحة وسريعة، كما فرضها التصعيد الترامبي بمواجهة العالم.
في آخر يوم من السنة الفائتة، وقبل يوم من انتهاء الرئاسة الألمانية الدورية للاتحاد الأوروبي، استثمرت أنجيلا ميركل ثقل ألمانيا لإنجاح توقيع الاتفاق الاستثماري بين الاتحاد الأوروبي والصين؛ الاتفاق الذي طال انتظاره لخمس سنوات من المفاوضات والتجاذب، متجاوزةً عثرات اعتراضية من دول أوروبية، ومستفيدة من الوقت الضائع في فترة التسلم والتسليم بين الخاسر دونالد ترامب والرابح جو بايدن، الذي ثارت حفيظة فريقه على الاتفاق، واعتبر أن توقيته لم يأخذ بالحسبان موقف واشنطن من التمدد الصيني ومخاطره على المصالح الاستراتيجية المشتركة للغرب عموماً.
لم تفتح ميركل أبواب التّعاون بين أوروبا والشرق البعيد فقط، بل ثقبت أيضاً جدار "الخوف الأوروبي" التقليديّ من روسيا في كلّ حالاتها (قيصرية أو سوفياتية أو اتحادية)، عبر استكمال مشروع أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط أوروبا على المستوى الاقتصاديّ الاستراتيجيّ بروسيا، وسيكون له انعكاسات في مجالات سياسيّة لن تكون أقل أهمية في صياغة إرادة أوروبية تتلمّس مستقبلها على بعد "معقول" من النفوذ الأميركيّ.
لكنَّ طموحات المستشارة الألمانية في الحدّ الأدنى من "الاستقلال الأوروبي" عن الولايات المتحدة لم تكن جدّية بالقدر الكافي، فمقاومتها لتحديث السياسات الألمانية الدفاعية شكّلت ثغرة في هذه الوجهة، إذ إنّ الحضور السياسي والاقتصادي من دون قوة عسكرية حمائية فاعلة لن يؤدي إلا إلى المزيد من تراجع التأثير الأوروبي في الساحة الدولية.
لم تتورّط أنجيلا ميركل في الانجرار خلف السياسات الأميركية العسكرية بشكل مباشر، واكتفت بتدريب وتجهيز شركاء أسمتهم "جديرين بالثقة" في مناطق الاضطرابات عبر الدعم اللوجستي والتدريب وتصدير الأسلحة، ما سبب غالباً انتقادات للألمان بأنّهم تركوا حلفاء آخرين للقيام بالعمل القذر، بينما ظلّت ألمانيا بعيدة بشكل مريح عن الخطوط الأماميّة.
ستستمرّ هيمنة السياسات البراغماتية في ألمانيا بعد مغادرة المستشارة الألمانية منصبها، ويشكل انتخاب أرمين لاشيت، زعيماً جديداً لحزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي امتداداً لسياساتها على كل المستويات، وهو مؤيد للمسار الاقتصادي المعتدل والسياسة الخارجية الذي وضعته. وأيّد خطّتها للاستفادة من قوة الميزانية العامة الفيدرالية لمساعدة الشركات الألمانية على مواجهة الخسائر جراء انتشار جائحة كورونا.
لم يعد حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي مختلفاً كثيراً عن الاشتراكيين الألمان أو حزب الخضر. ربما تكون مسألة وقت فقط حتى يتخلّى تماماً عن قيمه المحافظة وينضمّ إلى جبهة اليسار. ليس هناك ما يضمن ترشيح لاشيت لمنصب المستشار، لكن موقعه كزعيم للحزب سيعطيه دوراً أساسياً، وعلى الأرجح في تشكيل سياسات الحكومة الألمانية المقبلة. وإذا صدقت قراءات الصحافة الألمانية للأيام المقبلة، فإنَّ ألمانيا ستكون أمام حقبة جديدة لميركل من دون ميركل نفسها.
يعتبر أرمين لاشيت من المدافعين الأقوياء عن تكامل الاتحاد الأوروبي، وهو شديد التعلق برؤية أوروبا أكثر اتحاداً. وقد قال قبل فوزه بزعامة حزبه: "ألمانيا التي أتصورها هي ألمانيا الأوروبية." يشارك لاشيت أنجيلا ميركل انفتاحها على الصين وروسيا. وقد خفّف انتصار "اللاعب الجديد" البالغ من العمر 59 عاماً مخاوف بكين من أن تتخلّى ألمانيا، أكبر شريك تجاري للصين في أوروبا، عن موقف ميركل الودّي تجاه بكين. كذلك، سيبقي قنوات الاتصال مع روسيا مفتوحة، تماماً كما فعلت ميركل، فهو يدرك، بحسب تصريحاته، أهمية روسيا المركزية للاستقرار الدولي عموماً ولأوروبا خصوصاً: "هذه الحقيقة وحدها تجعل الحوار ضرورياً. وخلال أكثر الأوقات توتراً في الحرب الباردة، كان هناك تبادل بين الاتحاد السوفياتي والغرب في العلوم والتجارة والثقافة والمجتمع المدني."
لاشيت قريب جداً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو من عشاق الفرانكوفونية، مثل العديد من السياسيين الألمان في منطقة الراين. ومن المتوقّع أن يعمل بشكل وثيق مع الحكومة الفرنسية في عدد من القضايا الدولية، وأن تستمر ثنائية برلين باريس في قيادة الاتحاد الأوروبي على حالها في المدى المنظور.
في العام 2014، وجّه آرمين لاشيت انتقادات حادة إلى الولايات المتحدة ووزير خارجيتها آنذاك جون كيري حول الدعم الأميركي لإرهابيي "داعش" و"النصرة" ضد الحكومة والرئيس الأسد في سوريا، وأعلن أن قطر والسعودية تموّل هذه الجماعات سراً.
بعد فوز جو بايدن وهزيمة دونالد ترمب، يبرز الأمل باستعادة التعاون بين ضفتي الأطلسي واستعادة العلاقات بين برلين وواشنطن التي عانت بشدة خلال رئاسة ترامب، "فالولايات المتحدة هي أهم شريك لنا خارج الاتحاد الأوروبي. إنها الدولة التكنولوجية الرائدة في العالم، ولها أهمية بالغة للأمن في أوروبا"، وفق ما قاله وزير الداخلية، هورست زيهوفر.