الانتخابات الفلسطينيّة.. رؤية ثالثة
الأساس في الانتخابات العامة الفلسطينية أنْ تُعيد بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني وفق متطلبات مرحلة التحرر الوطني.
أصدر الرئيس محمود عباس مرسوماً رئاسياً بإجراء انتخابات عامة على التوالي، تبدأ بالمجلس التشريعي، فرئاسة السلطة، ثم المجلس الوطني. وأصدر هذا المرسوم بعد تلقّيه رسالة مكتوبة من رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" السيد إسماعيل هنية، فحواها موافقة الحركة على إجراء انتخابات عامة بالتوالي والترابط، بعد تخليها عن شرط إجرائها بالتوازي، ثم إزالة آخر عقبة تمنع إجراء الانتخابات عملياً، ولكنها لم تُنهِ استمرار الجدل حول الانتخابات نظرياً، بسبب تباين الرؤى حولها بين مؤيد مرحب ومعارض مشكك، وبين الترحيب والتشكيك، هناك رؤية ثالثة، بعيداً عن المنظار ذي اللونين "الأبيض والأسود"، وأكثر بُعداً عن الرؤية الثنائية القطعية "الحق والباطل"، والرؤية الثالثة للانتخابات الفلسطينية التي تحتاج إلى بعض التفاصيل.
أوّلاً: تعدّد الرؤى واختلاف المواقف حول الانتخابات العامة الفلسطينية، السابقة واللاحقة، ما بين التأييد والرفض، والترحيب والتشكيك، والمشاركة والمقاطعة، يدخل في باب الاجتهادات السياسية التي تقبل الصواب والخطأ، وتخضع للرأي والرأي الآخر، ولا يجوز إلباسها ثوباً شرعياً أو لباساً وطنياً يذهب بها نحو التحليل والتحريم شرعياً أو نحو الأمانة والعمالة وطنياً، كي لا ينحدر الخلاف حولها إلى دائرتي التكفير والتخوين، ويبقى في دائرة الخلاف الفكريّ والسياسيّ.
ثانياً: الانتخابات العامة بحد ذاتها، وفي سياقها الطبيعي، أمرٌ إيجابي مطلوب، لأنها أحد مكونات النظام السياسي الديمقراطي النيابي، وأحد أهم وسائل تطبيق الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم، وطريقة مضبوطة تؤهل أفراد الشعب للمشاركة في إدارة شؤونهم العامة في بلدهم، وتُتيح لهم اختيار حكامهم وتغييرهم، واختيار نوابهم في البرلمان وتغييرهم، ووسيلة قانونية لتداول السلطة سلمياً ومنع احتكارها من أي نخبة متسلطة، وهي حق للمواطنين في دساتير الدول والمواثيق الدولية والأعراف الإنسانية، وهذا ينطبق من حيث المبدأ على الانتخابات الفلسطينية.
ثالثاً: الانتخابات العامة إيجابيّة عندما تُجرى في الدول المستقلة ذات السيادة الفعلية، وعندما تأتي بعد انتصار حركات التحرّر الوطنية وتحرّر الشعوب من مُحتليها، وعندما تكون نتيجة لتطوّر الحياة السياسية للمجتمعات البشرية، وعندما يكون هدفها تداول السلطة منعاً لاحتكارها ودرءاً للاستبداد والفساد... ولكن الانتخابات العامة لا تكون في سياقها الطبيعي إذا كانت تحت الاحتلال، وحركة التحرر الوطني لم تحقّق الانتصار، ولم تأتِ في إطار تطور الحياة السياسية، واقتصر هدفها على تثبيت النخبة الحاكمة وشرعنة الاستبداد والفساد، وقد يكون الواقع الفلسطيني أقرب إلى سياق الانتخابات غير الطبيعيّ.
رابعاً: الانتخابات العامة الفلسطينية بعد اتفاقية "أوسلو" وما ترتب عليها من إقامة السلطة الفلسطينية الخاصة بالمجلس التشريعي ورئاسة السلطة، جاءت في سياق غير طبيعي أفرزته اتفاقية "أوسلو"، وكانت جزءاً من الاتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني.
وبناءً على ذلك، أُدخلت الانتخابات في القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية (الدستور). وبذلك، تكون مرجعية الانتخابات القانونية ما ورد في اتفاقية "أوسلو" والقانون الأساسي للسلطة، ما يجعل سقفها مرتبطاً بمشروع التسوية، والمشاركة فيها على هذا الأساس تعني الموافقة على نتائجها المرتبطة بسقف "أوسلو" ومشروع التسوية.
خامساً: جاءت الانتخابات بناء على اتفاقية بين المنظمة كحركة تحرر وطني و"إسرائيل" كـ"دولة" احتلال، فكانت جزءاً من مشروع سياسي لترويض حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتحويلها من مرحلة الثورة إلى مرحلة السلطة تحت وهم الاستقلال، ولإيجاد كيان سياسي مشوّه المعالم ما بين الحكم الذاتي والدّولة، ومنزوع الدسم الوطني كبديل من الدولة الوطنية المستقلة، ولتكوين نخبة سياسيّة حاكمة مرتبطة مصلحياً بالعلاقة مع الاحتلال، ومنفصلة شعورياً عن الحركة الوطنية الفلسطينيّة، ولتحويل الأرض المحتلة إلى ساحة تنافس حزبي وصراع سياسي واقتتال أهلي وانقسام سلطوي، ولفتح صراع مؤجل حول هُوية الدولة المستقلة لا يجوز فتحه في مرحلة التحرر الوطني.
سادساً: انتخابات السّلطة في مرحلة التحرّر الوطني توجد شرعية جديدة للقيادة الوطنية الفلسطينية هي الشرعية التمثيلية المكتسبة من صندوق الاقتراع، سقفها السياسي والوطني مرتبط بمرجعية الانتخابات المنبثقة من اتفاقية أوسلو، لتحلّ مكان الشرعية الثورية المكتسبة من مقاومة الاحتلال والنضال الوطني عبر مسيرة كفاح طويلة للقادة وفصائلهم، مرتبطة بمرجعية الحركة الوطنية ومدى تمسّك قادتها وفصائلها بالحقوق الوطنية الثابتة والأهداف الوطنية التحريرية ونهج المقاومة الشاملة. والخطورة تكمن في إيجاد شرعية جديدة خارج مسار الحركة الوطنية وشرعيتها الثورية من شأنه إيجاد قيادة لها أولويّات مختلفة، وربما متناقضة مع أولويات المشروع الوطني الفلسطينيّ.
سابعاً: رغم أنَّ المجلس الوطني الفلسطيني هو الذي عدّل الميثاق الوطني في العام 1996م لينسجم مع اتفاقية "أوسلو"، وأن مجلسه المركزي هو الذي أصدر قراراً بإنشاء السلطة في العام 1993م، فإنه يختلف عن المجلس التشريعي من حيث المرجعية والوظيفة، فمرجعية المجلس الوطني القانونية هي القانون الأساسي لمنظّمة التحرير الفلسطينية، ومرجعيّته السياسية هي الميثاق الوطني الفلسطيني بنسخته الأصلية، ووظيفته المحدّدة في القانون الأساسي للمنظمة هي "السلطة العُليا لمنظّمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخطّطاتها وبرامجها". وإذا ما ضمّ الكلّ الفلسطيني وتمسّك بالحقوق الوطنية، فإنه يقوم بدوره كبرلمان جامع للشعب الفلسطيني وحارس أمين على المشروع الوطني، ويمثل قيادة جماعية للحركة الوطنية. لذا، فإن المشاركة فيه تختلف عن المجلس التشريعي.
ثامناً: الأساس في الانتخابات العامة الفلسطينية أنْ تُعيد بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني وفق متطلبات مرحلة التحرر الوطني وعمودها الفقري المقاومة، وأن تكون بوصلتها موجهة لإنجاز أهداف المشروع الوطني ومحاوره، التحرير والعودة والاستقلال، وبالتالي كان من الأفضل أن يسبق عملية الانتخابات وفاق وطني يرتكز على رؤية وطنية توافقية، يكون للانتخابات فيها سقف وطني أبعد من مجرّد تجديد شرعيّة أولي الأمر في السّلطة أو حل مشكلة انقسامها، يبدأ بإعادة بناء المنظمة كبيت جامع لكل الفلسطينيين وإطار قائد لمشروع التحرير، وإعادة بناء السلطة كرافد للمشروع الوطني وركيزة لصمود الشعب الفلسطيني.
تاسعاً: الحضور السياسي لفصائل الحركة الوطنية لا يأتي عبر بوابة الانتخابات في الواقع السياسي الفلسطيني، رغم أهميته، ولكنه يأتي في مرحلة التحرر الوطني من خلال التشبث بالحقوق الوطنية، والثبات على إنجاز الأهداف الوطنية، وعدم التخلّي عن طريق النضال والمقاومة، والالتصاق بجماهير الشعب بآلامها وآمالها، وهذا الحضور يُنتزع بالبندقية الموجهة إلى الاحتلال، ويؤخذ بالدم المُراق في ميادين القتال، ويُعرف بالتضحية في ساحات النزال... وأي حضور سياسي في الانتخابات لا ينبغي أن يكون على حساب الحضور الوطني المقاوم والشرعية الثورية النضالية.
عاشراً وأخيراً، بناءً على كل ما تقدّم من نقاط وما ذُكر من معطيات ومقدمات، فإنَّ الرؤية حول الانتخابات العامة الفلسطينية في السابق واللاحق، وما يُبنى عليها من مواقف بالمشاركة أو المقاطعة، الكلية أو الجزئية، هي "اجتهاد سياسي" يرى أنها في غير سياقها السياسي الطبيعي، وبعيدة من إطارها الوطني التحرري، لانفصالها عن مسار الحركة الوطنية وأهداف المشروع الوطني وطبيعة مرحلة الكفاح التحرري، و"اجتهاد سياسي" يُميز بين المجلسين الوطني والتشريعي لصالح المجلس الوطني، لاختلاف مرجعية كل منهما ووظيفته.
وفي كل الأحوال، هي "رؤية" تعتبر الوحدة الوطنية واجباً يشكل الأساس فيه وحدة الأرض والشعب والقضية، والالتقاء على مشروع وطني موحد وبرنامج سياسي توافقي، قبل الركون إلى أي إطار وطني أو مؤسسة سياسية.