أقلّ من ثورة أكثر من احتجاج.. الشعبويّة تعود إلى المصدر

حين انتُخب دونالد ترامب لموقع الرئاسة منذ 4 سنوات، ألم يكن أقلّ غوغائيةً من اليوم؟ أو أقلّ وقاحةً على الأرجح! فمنذ اللّحظة الأولى لترشّحه، اعتبر أميركا قويةً لكنّها عاجزة.

  • مهما فعل ترامب، ستبقى سنوات حكمه الـ4، الأبرز بين أقرانه، من حيث أسلوبه الانقلابي على الأعراف والتقاليد
    مهما فعل ترامب، ستبقى سنوات حكمه الـ4، الأبرز بين أقرانه، من حيث أسلوبه الانقلابي على الأعراف والتقاليد

تجاوزت طبيعة الأحداث الأميركية، مجالات التنافس التقليدي بين "الجمهوريين" و"الديموقراطيين"، ورسمت أسئلةً كثيرة، مباشرة، وبعيدة، صعُبت الإجابة عليها من قِبل المراقبين والمعنيين على حدٍّ سواء.

أزمةٌ "تاريخية"، غير مسبوقة، لكنها غير مفاجئة. لم تقفز من الفراغ بسبب أفعال ترامب المتفق عليها. تبعات انهيار عام 2008 لم تجد حلولاً ناجعة، في الداخل الأميركي، فـ"المحتجّون" ليسوا قلّة، ولا "أقليّة". إنّهم يعبّرون عن عشرات الملايين من الأميركيين. ما يجمع بينهم "تفليستهم" المشتركة، وفقدانهم لأعمالهم وممتلكاتهم المرهونة للمصارف.

شريحةٌ اجتماعيةٌ واسعة تشكّلت عقب تلك الأزمة الاقتصادية الأميركية العالمية. لم تجد مَن يعترف بها من الحزبين. إدارة باراك أوباما، اكتفت بضخّ مسكّنات الألم، لا معالجة المرض، وفي أحسن الأحوال، دفنت رأسها بالرّمال كالنعامة، وأرجأت المواجهة إلى أجلٍ غير مسمّى، فلم تجد الأزمة أفضل من مركب ترامب "الفارغ" لتعبّر عن نفسها.

تُشكّل تيارات "القوميين المتطرفين" و"جماعات البيض" من جمهور ترامب القيمة المضافة إلى الشريحة الاجتماعية في أزمة 2008 الاقتصادية، لكنها ليست عصبها الأساس، حتى ترامب نفسه ليس عصباً في هذا التيار، بقدر ما هو رمزٌ جمع "بجرأته" وتطفّله وأسلوبه السياسي الخاص مساحةً التقت حولها شرائح وتياراتٌ مختلفة من متضرّري منظومةٍ اقتصاديةٍ لم تكتفِ بنهب ثروات العالم، فأدارت فاهها، نحو الرعيّة الأميركية.

مهما فعل ترامب، ستبقى سنوات حكمه الـ4، الأبرز بين أقرانه، من حيث أسلوبه الانقلابي على الأعراف والتقاليد. كان نكرةً في عالم السياسة، فقفز إلى رتبة أشهر سياسيٍّ على الساحة الدولية، يتابعه من معه، ومن يناهضه، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً للتعويض عن فقره في خبرات العمل السياسي، وساهمت في بناء أوّل ظاهرةٍ في المجال العام، ليست تحت السيطرة، ولا يمكن التنبؤ بمآلاتها.

حين انتُخب دونالد ترامب لموقع الرئاسة منذ 4 سنوات، ألم يكن أقلّ غوغائيةً من اليوم؟ أو أقلّ وقاحةً على الأرجح! فمنذ اللّحظة الأولى لترشّحه، اعتبر أميركا قويةً لكنّها عاجزة، بسبب نخبها المسيطرة على السلطة وتفرّعاتها، وانتدب نفسه لرأب صدع العجز، ووعد ناخبيه في الداخل وحلفائه في الخارج بإنجازاتٍ تغطّي بحجمها مساراً طويلاً من التخبّط والتراجع.

لم ينجح ترامب في تنفيذ وعوده الكبيرة. في الملفات الداخلية، تواضع في الإنجازات وتوّجها بأخطاء تَعامُلِه مع أزمة وباء كورونا، وساهمت جريمة مصرع جورج فلويد العنصرية في دفع مسار هزيمته في الانتخابات قُدُماً. وفي الملفات الخارجية، فشل في تحقيق شعار "أميركا أوّلاً"، وتحوّل الرمز إلى "أميركا وحدها"، أو "أميركا لوحدها"، بلا صداقة الحلفاء، غارقةً في حالةٍ من التدحرج الأخلاقي الذي أدّى إلى تراجعٍ في مكانتها الدولية.

ساعدت ظروف وأحداثٌ غير مسبوقة "الدولة العميقة" في إزاحة دونالد ترامب وإبعاده عن التجديد الرئاسي. وبرأي بعض المراقبين، "الوباء" كان العامل الرئيسي الذي حرم ترامب من نصرٍ انتخابيٍّ محقّق، ولكان الأمر مغايراً في ما لو جرت الانتخابات في ظروفٍ مختلفة، أو شبه عادية. 

في المقابل، عشرات ملايين الأصوات التي حازها جو بايدن في فوزه، ليست جميعها من جمهور الحزب الديمقراطي. بعضها يرفض ترامب، ويفضّل أيّ مرشحٍ آخر عليه. هناك فئةٌ تركن إلى ما تُملي عليها الحميّة الوطنية، تتمسك بالتنوع والاختلاف وترفض العنصرية. ومن بين هاتين الفئتين، كان لتيار يسار الوسط (المتنامي أيضاً في الداخل الأميركي بعد أزمة العام 2008) الذي يمثله بيرني ساندرز "المرشح الرئاسي" حصةً كبيرة في هزيمة ترامب الانتخابية.

استعدّ دونالد ترامب لسلسلةٍ من الخطوات في حال هزيمته في الانتخابات. عاصفة الاحتجاج التي ضربت الكونغرس أرادها ترامب لكمةً للمركز "المقدس" للدولة العميقة التي أخرجته من الحلبة. ودفع بجمهوره للتكتّل خلفه، في سجلّ محاسبةٍ كبيرة، سيجريه مع الحزب الديمقراطي بدايةً، ولن يكون الحزب الجمهوري بمأمنٍ منه.

الشعبويّة التي رعتها إدارة الرئيس باراك أوباما لسنوات، تحت عنوان نشر الديمقراطية، والتي استُخدمت بقوةٍ في تقويض دولٍ وحكومات (أبرزها عربية)، يستخدمها ترامب الآن، لكن في الداخل الأميركي. فعاصفة الكونغرس كشفت عن عفونة الفساد السياسي للدولة الأميركية العميقة. وُصف الحراك الشعبوي بأشنع النعوت إن وقع في ولاية فرجينيا أوغيرها من الولايات الأميركية، ومُجِّد إن حصل في دمشق أو القاهرة أو بغداد.

أدار دونالد ترامب الحدث الاحتجاجي بدقة. ساعةٌ من العبث في قاعات مبنى الكابيتول أدّت وظيفتها بإرسال الرسائل في جميع الاتجاهات، كذلك جيّشت جمهور "الترامبية" خلف زعيمها ومؤسّسها، الذي كشف لغريمه جو بايدن ما سيواجه في فترة رئاسته، من احتجاجاتٍ دائمة بأساليب ثورية، دون أن تتحوّل إلى ثورة، لكنهاتبقى  أكثر من احتجاجاتٍ تقليدية.