"الاتحاد من أجل المتوسط".. بعد 25 عاماً سلال بلا غلال
غاب عن بال المحتفلين بالمتوسطيّة أنّ أوروبا لم تعد كما كانت حين انطلق "مسار برشلونة". وكذلك الشرق الأوسط لم يعد كما كان.
احتفل "الاتحاد من أجل المتوسط" في منتداه الخامس "الافتراضي" في 27 من الشهر الماضي، بذكرى مرور ربع قرنٍ على إطلاق مسار عمليّة برشلونة في العام 1995، المسار الذي استكملته فرنسا عام 2008 برئاسة نيكولا ساركوزي، بمشاركة 43 شخصيةً من رؤساء دولٍ وحكوماتٍ من ضفّتي المتوسط، ووسط حضورٍ دوليٍّ خلال الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي.
أرادت فرنسا إضفاء الطابع المؤسّسي على عمليّة برشلونة، وإظهار موقعها القيادي في مسار الذي قد يُعيد إلى قصر الإليزيه، دوراً دولياً وإقليمياً، تآكل وتراجع منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، عشيّة هزيمة "العدوان الثلاثي" الفرنسي الإسرائيلي الإنكليزي على مصر.
بعد مراجعة الـ25 سنة الماضية في هذا المسار، نجدها لا تزخر سوى بتصريحاتٍ لمعظم وزراء الخارجية للدول الأعضاء، حول "نواياهم الطيبة"، أكثر مما تزخر "بإنجازاتٍ" يُعتدّ بها. فالأهداف الرئيسية في الأمن والاستقرار المتوسّطي، ظلّت شعاراتٍ لمؤسّسةٍ عاجزةٍ أمام تدهورٍ غير مسبوقٍ في أمن جنوب وغرب المتوسط، من العدوان الإسرائيلي في تموز 2006 على لبنان، إلى العدوان على غزة في 2009، وصولاً إلى الحرب على ليبيا وسوريا، حروبٌ أدارها الشريك المتوسّطي على الضفّة الأوروبية بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وحكومة تل ابيب، والدول العربية في الخليج، المعارضة ضمناً للمسارالمتوسطي، كونها منضوية في مشروع "الشرق أوسطيّة" الإسرائيلي، الذي تتبنّاه واشنطن بالكامل، كخيارٍ استسلاميٍّ وحيدٍ أمام العرب.
عارضت معظم دول الاتحاد الأوروبي التي لا تجاور الحوض المتوسطي، مسار برشلونة منذ إطلاق فكرته، لاعتبار أنّه قد يشكّل بديلاً عن الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء المشاطئة للمتوسط. تحفّظت دول أوروبا الشرقية المنضمّة حديثاً إلى الاتحاد الأوروبي، على مشروعٍ قد يُضعف من حجم الدعم المالي المتدفّق من بروكسل لاقتصادياتٍ متعثرة.
لم تلبث أن انضمّت كلّ الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى الشراكة المتوسطية، بعد اتفاق "قمة هانوفير" بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في العام 2008.
الدخول الأوروبي ككتلةٍ إلى الاتحاد المتوسطي، أضعف من تزعُّمِ باريس للمسار، وخفّف من قدرة الشركاء في المقلب الآخر على التأثير الحيوي أو الفعّال، لأنّها ولجت إلى هذا المشروع فُرادى، وكأمرٍ واقع، بعد "مؤتمر مدريد" و "اتفاق أوسلو"، بوصفهما الرّمزي، الدّال على تراجع النّظام العربي الرسمي عن خطوطه الحمراء في أكثر قضاياه الرئيسية، أهمّها: فرض وتسهيل عملية التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، دون مقابلٍ سياسيّ أو حقوقيّ للفلسطينيين، وجعل الأمر نتيجةً طبيعية للتّجاور الإسرائيلي العربي في العضوية "المتوسطية".
نهاية الحرب الباردة وانهيار "حلف وارسو" والمعسكر الاشتراكي، ضيّقت مساحة الخيارات على الدول العربية المصنّفة "مواجِهة" للاحتلال الإسرائيلي وللهيمنة الأميركية والغربية. فالمتوسطيّة من بين المشاريع المطروحة على طاولة موازين القوى الجديدة، قد تكون أقلّ غِلظةً بوجهٍ أوروبي، من أوسطيّة شمعون بيريز بقيادة الأحادية الأميركية.
الزعيم اللّيبي الراحل معمّر القذافي، وصف المشروع المتوسطي آنذاك، بأنّه "إحياءٌ لخرائطٍ استعمارية مكروهة، يُذيب دول جنوب المتوسط باستراتيجية الحلف الاطلسي".
ولم تُخدع حكومات دمشق والجزائر وطرابلس الغرب، بالعناوين البرّاقة المطروحة في المتوسطيّة حين انطلقت قبل 25 سنة، ولا هي مخدوعةً اليوم، أمام اشتداد الصّراع الدولي المحموم على المنطقة عموماً وعلى البحرالأبيض المتوسط تحديداً.
غاب عن بال المحتفلين بالمتوسطيّة أنّ أوروبا لم تعد كما كانت حين انطلق "مسار برشلونة". وكذلك الشرق الأوسط لم يعد كما كان. نشهد اليوم تداعيات بروكسل وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، يقابلها متغيّراتٌ كبرى على التوازنات التي توالت خلال ربع القرن الأخير في عموم الشرق الأوسط. والحضور الروسي السياسي والعسكري والاقتصادي في المتوسط، يفرض عدم إغفاله في أي حساباتٍ متوسطيّة، سياسيّةٍ كانت أم غيرها.
ما ينطبق على الحضور الروسي المنسَّق بقوةٍ مع الصين، ينطبق على إيران المكرّسَة الحضور، في قطاعاتٍ شتّى، سياسيّةٍ وعسكريةٍ وثقافيةٍ وحياتية، في عمق مشهد المنطقة، إذ لا يمكن تجاوزها في أيّ مشروعٍ متّصلٍ بحاضر منطقة المتوسّط أو مستقبلها، وما أوسع منها ربما.
تتحمّل بروكسل المسؤوليّة الأكبر، في عدم تقدّم مشروع "الاتحاد من أجل المتوسّط" نحو خطىً جديّةٍ تؤدّي إلى الثقة به. المثير في الأمر هو أنّ وسائل الإعلام الأوروبية، بالكاد تهتمّ بهذا المشروع، والشارع الأوروبي بمعظمه يجهل وجود الاتحاد المتوسّطي. وعلى الأرجح، يأتي جهل الشارع الأوروبي مشتركاً مع الشارع العربي، الغارق بدماء بنيه، بأسلحة الموت والدمار الممهورة بختم الصناعات الأوروبية والغربية. والسلال الأوروبية الموعودة لدول الجنوب، مزركشةٌ وجميلة، لكن لا غلال فيها.