نهوض "الحركة الحوثية" في اليمن بشعار "الموت لأميركا" (2/2)

كانت السعودية تكتفي بالدعم المالي والعسكري لعلي عبد الله صالح وجيشه، ولكنها شعرت أخيراً أنّ صالح عاجزٌ لوحده عن الحسم وظنّت أن طيرانها قادرٌ على استئصال الحركة الحوثية.

  • صارت القضية الفلسطينية حاضرةً دائماً في أدبيّات الحركة الحوثية
    صارت القضية الفلسطينية حاضرةً دائماً في أدبيّات الحركة الحوثية

المقال الثاني أدناه استكمال للمقال الأول، الذي كان تحت عنوان:  "عن اليمن والغزو الوهابي السعودي".

حسين الحوثي، نجل السيّد بدر الدين الحوثي، كان شاباً نشِطاً وقويّ الشخصية، بالإضافة إلى كونه متبحّراً في العلوم الدينية التي تلقاها عن والده. بدأ حسين الحوثي بتجميع شباب الزيدية في صعدة من حوله وإلقاء المحاضرات التثقيفية والتوعووية التي كانت تتركّز على تفسير القرآن الكريم وشرحه وتقوية الانتماء للدين الإسلامي. وخلافاً لما يُشاع، فإن الحوثي الإبن لم يكن يدعو إلى تحوّل الزيدية إلى المذهب الشيعي الاثني عشري الآخر السائد في إيران والعراق، بل كان يدعو إلى نهضة الزيديّة في اليمن وضرورة تخلّصها من مرحلة الخمول والهبوط.

في أوّل الأمر، لم تتدخل حكومة علي عبد الله صالح ولم تحاول منع نشاط حسين الحوثي، واكتفت بالمتابعة والمراقبة. ولكنّ تطوراً طرأ على خطاب حسين الحوثي جعل أجراس الإنذار تُقرع في صنعاء وذلك حين بدأ يتناول مواضيعَ سياسيةٍ اعتبرها علي عبد الله صالح، ونظامه خطاً أحمر لا يجوز التسامح معه. لم يكن خافياً أنّ حسين الحوثي كان، مثل أبيه، من المعجبين بالثورة الإيرانية وقائدها آية الله الخميني، ويراها إنجازاً إسلامياً عظيماً في زمن الطغيان الأميركي والصهيوني. طوّر حسين الحوثي نسخةً يمنيةً من شعار الثورة الإيرانية (مرگ بر امریکا  مرگ بر اسرائيل) فكان أتباعه يصرخون في المساجد بكلّ قوةٍ وحماس (الله أكبر الموت لأمريكا الموت لإسرائيل اللّعنة على اليهود النصر للإسلام) ويكررونها حتى صارت لازمةً لهم في كل اجتماعاتهم ومناسباتهم. وبالإضافة إلى ذلك، صار "سيدي حسين"، كما يطلق عليه أتباعه، يتحدث أيضاً عن تجربة حزب الله في لبنان ويمدح زعيمه السيّد حسن نصر الله، وخصوصاً أنّ تلك الفترة كانت قد شهدت هزيمة الجيش الإسرائيلي وانسحابه من جنوب لبنان. 

أرسلت حكومة صنعاء إلى حسين الحوثي من يطلب منه وقف نشاطه، وبالذات موضوع أميركا و"إسرائيل". ولكنّه رفض وأصرّ على الاستمرار. وحتى تلك اللحظة، كان عضواً منتخباً في مجلس النواب اليمني ولكنه توقّف عن الذهاب إلى صنعاء حينما بدأت بوادر الاستهداف الأمني له ولجماعته تلوح في الأفق، كما رفض تلبية دعوة الرئيس علي عبد الله صالح للقائه. تحصّن حسين الحوثي في جبال محافظة صعدة مع عددٍ كبيرٍ من أتباعه الذين هم من أبناء قبائل المنطقة المؤيدة له ولأبيه. وصار يستعدّ للمواجهة المرتقبة مع الحكومة. لم يكن الحصول على السلاح مشكلةً كبيرةً في بلدٍ كاليمن، حيث القبائل كلّها مسلّحة عدا عن إمكانية شراء السلاح من عناصر تابعةٍ للجيش الوطني.  

وهكذا، بدأت الحرب الأولى بين علي عبد الله صالح وجيشه، وبين الحركة الحوثية في اليمن. أرسلت حكومة صنعاء قواتها، بقيادة الجنرال علي محسن الأحمر، بغرض القضاء على "التمرد" واعتقال حسين الحوثي في صعدة في حزيران /يونيو 2004. استمر القتال الشرس بين الطرفين فترةً طويلةً إلى أن انتهت المعركة بمقتل حسين الحوثي، في أيلول/سبتمبر 2004. قامت الحكومة بعرض صورة جثته من أجل إثبات مقتله وإحباط معنويات أتباعه. ولكنّ الأثر كان عكسياً وبخلاف ما أراد صالح. تحوّل حسين بدر الدين الحوثي إلى شهيدٍ وبطل، وصار رمزاً للجهاد وللمظلوميّة لدى أتباعه وحصدت حركته المزيد من المؤيدين، "أنصار الله"  كما صاروا يُسَمّون، في صعدة وحجّة وعمران وأرحب وشمال اليمن عموماً.   

وما بين 2005 و2010، نشبت خمس حروبٍ أخرى بين الطرفين، وفي كل مرةٍ، تثبت الحركة الحوثية كفاءتها وبسالتها في القتال ضد الجيش الذي يفوقها عدداً وعتاداً. كانت كل واحدةٍ من تلك الحروب تنتهي بعد شهرين أو ثلاثة من القتال الضاري في صعدة وضواحيها وجبالها عندما يشعر علي عبد الله صالح، بأن قواته أُنهكت من القتال في الجبال الوعرة وعجزت عن تحقيق النصر.

واعتباراً من الحرب الرابعة في 2007، برز السيد عبد الملك الحوثي، الأخ الأصغر لحسين، كقائدٍ وزعيمٍ لحركة أنصار الله. وأثبت عبد الملك أنه لا يقلّ صلابةً وحزماً وإخلاصاً عن أخيه حسين، ونجح في الانتقال بالحركة إلى أفقٍ أبعد، بعدما صار بإمرته ما يقرب من 10000 مقاتل مؤمن متحمس. وفي الحرب السادسة التي اندلعت في أواخر 2009/أوائل2010، حصل تطوّرٌ مهمٌ حين قرّرت السعودية الدخول في الحرب مباشرةً ضد الحركة الحوثية (إلى جانب الحكومة اليمنية).

قبل ذلك، كانت السعودية تكتفي بالدعم المالي والعسكري لعلي عبد الله صالح وجيشه، ولكنها شعرت أخيراً أنّ صالح عاجزٌ لوحده عن الحسم وظنّت أن طيرانها قادرٌ على استئصال الحركة الحوثية، خاصةً إذا ترافق ذلك مع قصفٍ مدفعيٍّ مركّزٍ عبر الحدود. ولكنّ السعودية مُنيَت بخيبةٍ كبيرةٍ وتعرّضت لإحراجٍ شديدٍ بعد أن نجح مقاتلو الحركة الحوثية في اجتياز الحدود واحتلال 75 قريةً وموقعاً عسكرياً داخلها. انتهت الحرب السادسة والأخيرة بهدنةٍ وانسحابٍ متبادلٍ وصفقة تبادلٍ للأسرى بين السعودية من جهة، والحوثي من جهةٍ أخرى.

وخلال تلك الحروب الستة، ونظراً لضعف إمكانياتها المادية والإعلامية، تعرّضت الحركة الحوثية إلى حملات تشويهٍ فظيعةٍ من طرف حكومة علي عبد الله صالح وأيضاً من طرف امبراطورية الإعلام السعودي. وتراوحت التّهم بين كونهم مجرد "عصابةٍ مارقة"، أو "عملاء ومرتزقة إيرانية"، وأنّ الحوثي "يدّعي المهدويّة أو حتى النبوّة"! وأنهم "شرذمةٌ قليلةٌ وليس لهم وزنٌ ولا شعبيةٌ في اليمن".

وقد قيل الكثير عن الأسلحة التي تصلهم من إيران ومعسكرات الحرس الثوري الموجودة في مناطقهم! وطبعاً، لم تكن هناك أية إثباتاتٍ على هذه التّهم، ولم تستطع حكومة علي عبد الله صالح، تقديم أية أدلةٍ ماديةٍ على تورّط إيران في الصراع ولم تعثر حتى على عنصرٍ إيرانيٍّ واحدٍ موجودٍ بحوزة "أنصار الله".

والحقيقة الموضوعية أنه لولا وجود تأييدٍ شعبيٍّ كبيرٍ وواسعٍ لها، لما استطاعت حركة الحوثي أن تنجوَ من كلّ تلك الحملات العسكرية الفظيعة وتستمر، بل وتزداد انتشاراً وقوة. ومن عناصر قوتها كونها تعبّر بشكلٍ ما عن المهمّشين في منطقة صعدة التي عانت من التجاهل والإهمال على يد النظام الجمهوري الذي اعتبرها مركز  الإمامة الزيدية الغابرة وأصلها. وكان فساد نظام علي عبدالله صالح ولصوصيّته هو وكبار قيادات جيشه وحزبه، عنصراً داعماً ساعد الحوثي في معارضته، وهو المعروف بتواضعه وزهده ونظافة كفّه، أي أنّ الحركة الحوثية لم تكن فقط ردّة فعلٍ على الغزو المذهبي الوهابي، بل كان لها بُعدٌ وطنيٌّ يتمثّل في الاحتجاج على فساد النظام وسوء إدارته.      

شهدت قيادة عبد الملك الحوثي تطوراً كبيراً ليس فقط في الكفاءة العسكرية والقتالية ولكن أيضاً على المستوى الفكري/السياسي والخطاب الإعلامي. صارت القضية الفلسطينية حاضرةً دائماً في أدبيّات الحركة الحوثية وأضحت القدس أيقونةً للحشد والتعبئة في صفوفهم. وصار السيّد الحوثي يؤكد في خطاباته على "المسؤولية والالتزام الديني والأخلاقي والإنساني" في الموقف من الشعب الفسطيني وغير ذلك من المصطلحات التي لم تكن مألوفةً في خطاب وأدبيات الإمامة الزيدية القديمة. (ولكن هناك حاجةً إلى المزيد من التطوير لأدبيات الحركة الحوثية، فلا زالت عبارة "اللعنة على اليهود" تُستعمل من قبل أعضائها كجزءٍ من شعارها المميز. ولا يخفى أنّ لهذه العبارة ايحاءات كراهيةٍ دينيةٍ غير مقبولة، رغم أن قياداتٍ في حركة أنصار الله تحاول تفسيرها بالقول أنّ المقصود منها "اليهود الغاصبون والظالمون" وليس عموم اليهود بالمطلق. وأنا أتوقّع أن يوعز السيّد عبد الملك في المستقبل بتغييرها إلى عبارة "الصهاينة" بدلاً من "اليهود" أو إزالتها من شعار الحركة).

وبدأ عبد الملك الحوثي يظهر بمظهر الزعيم الوطني صاحب الخطاب العابر للطوائف والمذاهب، خصوصاً بعد أحداث 2012 وإزاحة صالح عن منصب الرئاسة. وفي مؤتمر الحوار الوطني الذي جرى في 2013، كانت مطالب "أنصار الله" وطنيةً عامة تتعلق بالانتخابات ونظام الحكم والأقاليم وغير ذلك من شؤونٍ تخصّ البلد ككلّ بعيداً عن أي طائفيةٍ أو مطالبَ مذهبيةٍ.

ولا زالت الحملات الإعلامية المعادية للحوثي مستمرةً بل وزادت شدتها بعد ثورة عام 2014. ويشترك في تلك الحملات جناحا الإعلام السعودي: مدّعي الليبيرالية (قناة العربية/ الحدث) والسلفي الوهابي (قناة وصال/ صفا) وتوابعهما. ويبثّون تقارير كثيرةً تتحدث عن "مظلومية أهل السنة" في اليمن و"استهداف الحوثيين لمساجدهم"... إلى آخر ذلك من الكلام التحريضي الطائفي. ويجري استغلال بعض الحوادث المتفرقة التي غالباً ما تكون ناتجةً عن إشكالاتٍ أمنية/سياسية ومحاولة إظهارها كحملةٍ مممنهجةٍ لاستهداف "السنّة" في اليمن. 

ليس هناك "استهدافٌ للسنّة" ولا لحملاتهم، ولا زالت مساجد السنّة في صنعاء وغيرها من مدن شمال اليمن كما هي، مفتوحةً وبنفس الأئمة من دون تغيير. الصراع الوحيد الذي حصل كان بين "أنصار الله" وبين تكتّل السلفيين الضخم في معهد دماج، وانتهى بخروجهم من صعدة سنة 2014. وكان جزءٌ  كبيرٌ من هؤلاء السلفيين الذين قاتلوا في صعدة من الأجانب، جاؤوا من خارج اليمن (معظمهم تحوّلوا إلى، أو كانوا أصلاً من، صفوف "القاعدة" و"داعش") أي أنه لم يكن صراعاً يمنياً يمنياً، ولا سنياً شيعياً بقدر ما كان دفاعاً يمنياً في وجه الغزو الخارجي الوهابي بشقّيه الفكري/ الأيدولوجي والتنظيمي المسلّح.

لم يتمّ تغيير المناهج الدراسية في اليمن، ولم يتمّ تغيير الكادر الوظيفي في الأجهزة البيروقراطية في الدولة، ولم يتمّ التلاعب في التركيبة المذهبية للجيش الوطني، ولا قطاعات الإنتاج والتجارة والشركات العامة، كلّها لا زالت كما كانت دائماً مزيجاً يمنياً من الزيدية الشيعة والشوافع السنّة، رغم تواجد "أنصار الله" في حكومة صنعاء منذ 2014 وما بعده.

لا خوف على اليمن من أهل اليمن، لو تُركوا وشأنهم، إرفعوا أيديكم عن اليمن لأنّ (الحِكْمَةَ يَمانِيّة) كما جاء في نبوءة الرسول الكريم.